حرْص النبي ﷺ على هداية الملوك

شمول دعوة الإسلام وهداياته لم تغفل مستوى أحد من البشر، وبالتالي شملت الفقير والغني، والرجل والمرأة، والملك والمملوك، ولهذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الملوك كما حرص على هداية الأقارب وأهل الكتاب، والملوك مصدر توجيه لمن تحت أيديهم، فإن استجابوا لله ورسوله فتحوا باب الخير لأتباعهم، وإن رفضوا هداية الله عز وجل لعباده كان وبالاً عليهم وصداً عن سبيل الله، ولهذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الحجة عليهم وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، وقد تنوعت نتائج حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الملوك على النحو التالي:

أولاً: ملوك أسلموا لحظة إيضاح رسالة الإسلام لديهم:

إسلام أحد الملوك يفتح باب الهداية لمن تحت يديه يؤجر عليهم وينال ثوابهم، وقد حدث هذا مع ملك البحرين لما حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هدايته، حيث أرسل العلاء بن الحضرمي إلى ‌المنذر ‌بن ‌ساوى العبدي، ملك البحرين يدعوه إلى الإسلام، وكتب ملك البحرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه وتصديقه، وقال: إنّي قرأت كتابك على أهل هجر، فمنهم من أحبّ الإسلام وأعجبه، ودخل فيه ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود فأحدث إليّ في ذلك أمرك.

فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية».

وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام، فإن أبوا أخذت منهم الجزية، وبألا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا هريرة مع العلاء بن الحضرميّ وأوصاه به خيراً، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم للعلاء فرائض الإبل والبقر والغنم والثّمار والأموال، فقرأ العلاء كتابه على الناس، وأخذ صدقاتهم(1).

فملك البحرين اتضحت له معالم رسالة الإسلام كاملة، فآمن بها دون تردد أو ارتياب، فنَعم ببقائه على سلطانه في الدنيا، ويكافئه الله تعالى يوم القيامة على أنه كان سبباً في إسلام مَن تحت يديه، وما تحقق ذلك إلا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هداية الملوك.

كما أن من الملوك الذين استجابوا منذ اللحظة الأولى بعد إيضاح رسالة الإسلام لديهم النجاشي ملك الحبشة.

ثانياً: ملوك رفضوا هداية الإسلام:

لما كانت دعوة الإسلام ورسالته عالمية، ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يترك شخصاً دون أن تصل إليه هداية الله تعالى، عظم شأن الشخص أم ضعف، رفض الرسالة أم قبلها، فكان ممن عظم شأنهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ملوك زمانه، فقد كتب كتبه إلى ملوك الآفاق يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له.

فكتب في جملة ذلك إلى كسرى ملك الفرس: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فأسلم تسلم..»، إلى آخره.

فلما جاءه الكتاب قال: ما هذا؟ قالوا: هذا كتاب جاء من عند رجل بجزيرة العرب يزعم أنه نبي، فلما فتح الكتاب فوجده قد بدأ باسمه قبل اسم كسرى، فغضب كسرى عند ذلك غضباً شديداً، وأخذ الكتاب فمزقه قبل أن يقرأه(2).

وفي البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه أن يمزق الله ملكه كل ممزق، وقد استجاب الله دعوته، حيث كتب كسرى إلى باذان عامله على اليمن: أنه بلغني أن رجلاً من قريش خرج بمكة، يزعم أنه نبي، فسر إليه فَاسْتَتِبْهُ، فإن تاب وإلا فابعث إليَّ برأسه، فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا من شهر كذا».

فلما أتى باذان الكتاب توقف لينظر، وقال: إن كان نبياً فسيكون ما قال، فقتل الله كسرى في اليوم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن هشام: قتل على يدي ابنه شيرويه(3).

فالعناد والكـبر والتـعالي أخـلاق نفسية مشينة كــانت سبباً في رفـض كسرى هداية الله تعالى رغم وضوح جوانبها وبيان أركانها وسهولة تطبيقها.

ولم يكن كسرى وحده الذي رفض هداية الله تعالى بل شاركه في ذلك غيره، وهو المنذر الغساني، حيث بعث النبي صلى الله عليه وسلم ‌شُجَاعَ ‌بْنَ ‌وَهْبٍ، إِلَى الْمُنْذِرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ الْغَسَّانِيِّ، صَاحِبِ دِمَشْقَ كَتَبَ إِلَيْهِ مَعَهُ: «سَلامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَآمَنَ بِهِ إِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ يَبْقَى لَكَ مُلْكُكَ فَقَدِمَ بِهِ ‌شُجَاعُ ‌بْنُ ‌وَهْبٍ»، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: مَنْ يَنْزِعُ مِنِّي مُلْكِي! أَنَا سَائِرٌ إِلَيْهِ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بَادَ مُلْكُهُ»(4).

فكلاهما توعد النبي صلى الله عليه وسلم بالعداوة والقضاء عليه، لكن الله تعالى عجّل وقضى على أعدائه.

ثالثاً: ملوك ترددوا دون عداوة أو إسلام:

إذا كان من بين الملوك من استجابوا لهداية الله تعالى وعارض آخرون، فقد كان من الملوك من ترددوا دون عداوة أو إسلام، منهم المقوقس، ملك مصر، حيث أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بَلْتعَة اللخمي إلى المقوقس، صاحب الإسكندريّة عظيم القبط، يدعوه إلى الإسلام وكتَبَ معه كتابًا، فقرأه وقال له خيرًا، وأخذ الكتاب فجعله في حُقّ من عاج وختم عليه ودفعه إلى جاريته، وكتب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم: قد علمت أن نبيًّا قد بقى وكنت أظنّ أنّه يخرج بالشام، وقد أكرمتُ رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وقد أهديت لك كسوة وبغلة تركبها.

ولم يزد على هذا ولم يُسلم، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم، هديته، وأخذ الجاريتين مارية أمّ إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأختها سيرين، وبغلة بيضاء لم يكن في العرب يومئذ غيرها وهي دُلْدُل، وقال صلى الله عليه وسلم: «ضَنّ الخبيثُ بمُلكِهِ وَلا بَقَاءَ لِمُلْكِهِ»، قال حاطب: كان لي مُكرمًا في الضيافة وقلة اللبث ببابه، ما أقمتُ عنده إلّا خمسة أيّام(5).

كما أن هرقل عظيم الروم علم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وسلامة نبوته، غير أنه آثر الدنيا على الآخرة، ففي حوار أبي سفيان مع هرقل ملك الروم حين سأل هرقل عن صفاته صلى الله عليه وسلم، وأحواله، واستدلاله بذلك على صدقه، ونبوته ورسالته، وقال له: كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أكن أظن أنه فيكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقيه، ولو كنت عنده ‌لغسلت ‌عن ‌قدميه، ولئن كان ما تقول حقاً؛ ليَملكن موضع قدمي هاتين(6).

فحرْص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الملوك كشف حقيقة بواطنهم وأظهر مَن سلِمت فطرته ومَن تلاعبت به الأهواء، وأوضح مَن رغب الآخرة ومَن آثر الحياة الدنيا، وما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم إلا (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال: 42).


اقرأ أيضا

حرص النبي على هداية أهل الكتاب

جهود النبي في دعوة القبائل للإسلام




________________

(2) سبل الهدى والرشاد: للشامي (11/ 364).

(3) البداية والنهاية: ابن كثير (9/ 427).

(4) سيرة ابن هشام (1/ 69).

(5) تاريخ الطبري (2/ 652).

(6) الطبقات الكبرى: ابن سعد (1/ 224).

(7) البداية والنهاية: ابن كثير (3/ 528).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة