وسائل التواصل الاجتماعي وأثرها على الثقافة

د. فاطمة حافظ

20 أبريل 2025

238

تؤدي وسائل التواصل الاجتماعي دوراً متزايداً في المجتمعات الإنسانية المعاصرة، إذ لا يقتصر تأثيرها على تعديل أنماط التواصل الإنساني، وإنما يمتد إلى التأثير على الثقافة وإنتاج المعرفة من حيث القابلية للقراءة وكيفيات البحث وأدواته وإتاحة المعرفة وما إلى ذلك.

تشير الإحصاءات إلى أن هناك زيادة مطردة في أعداد مستخدمي وسائل التواصل عبر العالم حتى وصل إلى ما يزيد على 5 مليارات شخص؛ أي قرابة ثلثي عدد سكان العالم، وأما في العالم العربي فقد بلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل في مصر عام 2024م ما يربو على 45 مليون مستخدم، وفي السعودية 35 مليوناً، وفي العراق 20 مليوناً، وفي المغرب 18 مليوناً، وهذا الانتشار السريع يفسر اتساع التأثيرات التي أحدثتها على الحياة الثقافية.

ورغم ما يُثار حول التأثيرات السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي، فإن لها جوانب إيجابية لا يمكن إنكارها على الصعيد الثقافي، فقد سهلت منصات مثل التليجرام مصادر المعرفة المختلفة (وثائق، كتب، موسوعات، قواميس..) ووفرتها للمختصين والمثقفين دون أي إجراءات إدارية معقدة، ودون أي اشتراطات، ويكفي الإشارة إلى أن الباحث منذ عقدين فقط كان يرتحل من بلد لآخر لأجل الاطلاع على مصدر أو وثيقة لا يمكنه العثور عليها في وطنه.

ومن الجوانب الإيجابية الأخرى إمكانية الوصول إلى المصادر المعرفية المتعددة دون مقابل، فلم تعد المادة تقف عائقاً أمام الراغب في التزود من المعرفة أو نيل شهادات تعليمية أرقى، وذلك بفضل المصادر المجانية المفتوحة التي لا تميز بين شخص وآخر دينياً أو عرقياً أو جنسياً، وهو ما يمكن أن نصفه بعملية «دمقرطة المعرفة».

من إيجابيات وسائل التواصل أنها كسرت الحواجز الجغرافية ما سهل التعرف على ثقافات وعادات بلدان أخرى

ومنها أنها يسرت للنابهين من الباحثين عرض إنتاجهم المعرفي على القراء مباشرة ودون قنوات وسيطة، مثل: دور نشر أو صحف أو مراكز بحث، وغير ذلك من القنوات التي احتكرت فيما مضى عملية إنتاج المعرفة وكانت المسؤولة عن تصعيد نخب من المثقفين، وكثيراً ما حجبت مجموعات المصالح والانتماءات الأيديولوجية ظهور كُتاب ومبدعين وأظهرت عناصر أقل موهبة وكفاءة.

ومنها أنها خلقت مساحات مشتركة بين أصحاب الاختصاص الواحد وسمحت بتداول الأفكار والخبرات فيما بينهم.

ومنها أنها سمحت بالتخلص من هواجس الرقابة التي تمارس في دور النشر وفضاءات المعرفة التقليدية التي طالما أقصت أفكاراً وأطروحات رصينة وروجت لأخرى حسب توجهات الدولة أو وفق أيديولوجيات القائمين على هذه الفضاءات، وهو ما يعني مزيداً من الحرية العلمية وإتاحة مساحة واحدة لكافة الآراء ودون إقصاء.

ومنها أنها كسرت الحواجز الجغرافية وأصبح بالإمكان التعرف على ثقافات وعادات وتقاليد بلدان أخرى، والتواصل مع أبنائها مما ساعد في فهم أفضل للثقافات الأخرى.


الدور المزدوج لوسائل التواصل في تشكيل التطبيع العربي «الإسرائيلي».. الجسور والحواجز |  مجلة المجتمع الكويتية
الدور المزدوج لوسائل التواصل في تشكيل التطبيع العربي «الإسرائيلي».. الجسور والحواجز | مجلة المجتمع الكويتية
  تؤدي وسائل التواصل الاجتماعي دورًا مهمًا ف...
mugtama.com
×


تداعيات سلبية

وعلى الجهة المقابلة، كان لانتشار التواصل الاجتماعي والاعتماد على الرقمية تداعيات سلبية على الثقافة والمعرفة عموماً وفي العالم العربي خصوصاً، ويأتي في مقدمتها انخفاض معدلات القراءة وخاصة الورقية، حيث أدى إدمان المحتوى القصير والفوري في وسائل التواصل (مثل: المنشورات، والتغريدات، والريلز)، إلى تقليص اهتمام الكثيرين، وخاصة الشباب، بالقراءة المتأنية والطويلة، وهي قراءة تحتاج قدراً من التركيز والانعزال.

ويرتبط بهذا تراجع معدلات القراءة اليومية، فالوقت الذي كان يخصص سابقًا للقراءة أصبح يستهلك في تصفح منصات التواصل، مما أدى إلى تراجع عادة القراءة، وتشير الإحصاءات إلى أن متوسط الوقت الذي يقضيه المستخدمون على وسائل التواصل يتجاوز 3 ساعات يوميًا، مقابل دقائق محدودة تُخصص للقراءة، وهكذا تراجع الإقبال على المطبوعات حتى اضطرت بعض دور النشر إلى الإغلاق واضطر بعضها إلى إصدار صيغ إلكترونية من الكتاب المطبوع.

.. ومن سلبياتها تراجع التفكير النقدي وقبول الأفكار دون تمحيص ما ساهم في انتشار الشائعات والأفكار المغلوطة

ومن السلبيات كذلك تراجع مهارة التفكير النقدي، إذ يصبح المتابع لوسائل التواصل أكثر عرضة لقبول الأفكار دون تمحيص ودون اختبار لمصداقيتها؛ وهو ما ساهم في انتشار الشائعات والأفكار المغلوطة، وينتج عن هذا إعادة تشكيل العقل بحيث يصبح تابعاً لا يستطيع الفكاك من أسر منظومات التفكير السائدة، ويؤثر هذا على البحث إذ يشترط في الباحث أن يتحلى بمهارة النقد وعدم قبول الأفكار والمسلَّمات إلا بعد اختبارها وفحصها، وإلا غدا البحث إعادة إنتاج لما أنتجه السابقون.

 

مواجهة الشائعات في عصر وسائل التواصل الاجتماعي |  مجلة المجتمع الكويتية
مواجهة الشائعات في عصر وسائل التواصل الاجتماعي | مجلة المجتمع الكويتية
في عالم يتسم بتقدم التكنولوجيا وانتشار وسائل التوا...
mugtama.com
×


الانتحال العلمي

من السلبيات التي برزت مؤخراً ظاهرة الانتحال العلمي إذ غدا مألوفاً أن يقوم أحدهم بالسطو على ما كتبه أحدهم دون عزو إلى كاتبه، وكذلك سرقة أفكار كتبها صاحبها في وسيط إلكتروني إلى وسيط مطبوع؛ وبالتالي يتعذر إثبات حقوق الملكية الفكرية للكاتب الأصلي، وفي محاولة للحد من هذه الظاهرة السلبية التي تهدد البحث العلمي ظهرت بعض الأدوات التي يمكن أن تساعد في اكتشاف نسبة الانتحال من خلال المقارنة بين النصوص المتشابهة.

ويتصل بهذا افتقاد معظم النصوص المنشورة عبر وسائل التواصل لاشتراطات الكتابة العلمية المتعارف عليها التي تشترطها منصات الكتابة التقليدية، وإسقاط الاشتراطات يغري بعض الباحثين بإنتاج محتوى رائج وضعيف علمياً، خاصة وإن كان يلقى تفاعلاً من الجمهور، وهكذا يغدو التفاعل على وسائل التواصل مقياساً زائفاً لقيمة البحث العلمي.

ضرورة الموازنة بين الانفتاح والهوية والعمل على تنشئة جيل رقمي معتز بثقافته وقادر على التعبير عنها بذكاء

ولعل أبرز السلبيات يتعلق بالتأثير المباشر على الهوية الثقافية، ونعني بها مجموعة القيم والعادات والأنماط السلوكية التي تميز مجتمعاً عن غيره، التي يتشكل منها الهوية الجماعية لأي أمة، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي غدت هذه الهوية مهددة بفعل التأثر بالثقافات الأخرى ومحاولة تبتي قيم وسلوكيات لا تتفق مع القيم الإسلامية، ووصل الأمر إلى حد إهدار اللغة العربية والتعبير عنها بالأحرف الإنجليزية بدلاً من الأحرف العربية، وهو ما يخلق جيلاً  مشوشاً غير قادر على التفكير والتعبير باللغة العربية حتى وإن كانت غير فصيحة.

خلاصة ما سبق، تعد وسائل التواصل الاجتماعي أداة ذات تأثير مزدوج فهي من جهة أداة فعالة لنشر الثقافة وتعزيز الوعي بها، ومن جهة أخرى تمثل مهدداً مباشراً للخصوصية الثقافية إذا أُسيء استخدامها؛ لذلك، من الضروري الموازنة بين الانفتاح والهوية، والعمل على تنشئة جيل رقمي معتز بثقافته وقادر على التعبير عنها بذكاء واحترام.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة