«تيك توك» يغتال أطفالك

هل يمكن أن
يتحول تطبيق وُلِد للترفيه إلى معلّم ومربٍّ بديل وغير آمن لأطفالنا؟
تشير إحصاءات
عربية حديثة في هذا الصدد إلى أن الطفل قد يقضي في اليوم الواحد ما يقارب 3 ساعات
متواصلة على «تيك توك»، بينما متوسط الوقت الذي يمضيه في حوار مباشر مع والديه لا
يتجاوز 20 دقيقة!
فمن الذي يغرس
القيم إذن؟ ومن يحدد شكل الوعي؟
وهل يُعقل أن
تُستبدل المدرسة والبيت بشاشة لا يتجاوز طولها 10 سنتيمترات؟
وهل ندرك أن
المحتوى العابر، الذي نمر عليه بلمسة إصبع، قد يراكم في عقول أبنائنا تصوّرات
مشوهة عن الهوية، والأخلاق، وحتى معنى الحياة؟
إن «تيك توك»
ليست مجرد منصة للفيديوهات القصيرة؛ بل قد تكون –من حيث لا نشعر– مناهج بديلة،
ترسم في وعي الأجيال خريطة جديدة للانتماء والسلوك.
وهنا يطل السؤال
المخيف: إذا كان «تيك توك» قد تسلل إلى حجرات أبنائنا دون استئذان، فهل نحن أمام
زمن تُربّى فيه العقول بـ«الترند»، وتُشكّل فيه الأخلاق بـ«اللايكات» والمشاهدات؟
تسطيح وإضعاف
استخدام الأطفال
للمنصات القصيرة مثل «تيك توك» مرتبط بأداء أكاديمي منخفض، ويرجع ذلك جزئيًا إلى
ضعف التركيز وفرط التشتت.
هذا ما أكدته
دراسة صينية شملت نحو 1052 طالبًا من مدارس «شنتشن»، حيث ارتبطت مدة المشاهدة
الطويلة بانخفاض درجاتهم الأكاديمية، من خلال تأثيراتها المباشرة على مستوى
الانتباه لديهم.
أبحاث أخرى أكدت
أن المحتوى سريع الإيقاع الذي يقدّمه «تيك توك» يؤثر فعلياً في قدرة الطلاب على
التركيز، ويضعف قدرتهم الاستيعابية، خاصة في المهام التي تتطلب استمرارية ذهنية.
كذلك، فإن دراسة
حديثة أظهرت أن الفيديوهات القصيرة وسرعة الانتقال بينها تضعف الذاكرة الاستباقية
أو القدرة على تذكّر وتنفيذ نوايا كانت موجودة مسبقًا.
سم في العسل
ليس كل «تيك توك»
سلبيًا؛ بل هناك أدوات تعليمية جذّابة.
دراسة ماليزية
وجدت أن 95% من طلاب الجامعات لديهم حساب على «تيك توك»، وقرابة 70% يرونه وسيلة
فعالة للتعلّم، وخصوصًا في تبسيط المفاهيم عبر فيديوهات قصيرة وسهلة الاستخدام.
وكذلك، ثلث
مستخدمي المنصّة يستخدمونه لأغراض تعليمية، و69% منهم أقرّوا أنه ساعدهم في أداء
واجباتهم المدرسية، خصوصًا بمواد مثل اللغة الإنجليزية والتاريخ والعلوم.
وفي حين يستفيد
البعض من المحتوى، هناك تأثيرات خطيرة لهذا المحتوى، منها:
- الإدمان
الرقمي: فكثير من الأطفال يستخدمون «تيك توك» رغم أن العمر المفترض هو 13 عامًا
وما فوق، بل إن الأطياف العمرية الطبيعية تظهر أعراض إدمان، منها التفكير المستمر
بالمنصّة وشعور بالحرمان عند عدم استخدامها.
- خطر التصميم
الإدماني للمنصّة: وثائق داخلية كشفت أن تيك توك واعٍ بتأثيراته المسببة للإدمان،
ويسعى لتعزيزها رغم الأخطار على الأطفال.
- التأثير على
الصحة النفسية: حيث حذر خبراء من أن الاستخدام المفرط قد يُسهِم في انخفاض الشهية،
واضطرابات النوم، وتدهور العلاقة الاجتماعية عند الأطفال.
يُعلّم.. لكن هل يُثقّف؟
في بريطانيا،
ارتفع عدد الطلاب المعتمدين على نصائح من «إنفلونسرز» في «تيك توك» أكثر من
معلميهم، حيث اعتمد 74% منهم على محتوى عبر المنصة للتحضير للاختبارات، مع غياب
التحقق من مصادر المعلومات أو المؤهلات.
أما في
الرياضيات، فقد ظهر اتجاه جديد لتعلم صيغ وطرق عبر فيديوهات طريفة قصيرة تُقدَّم
بطريقة جذابة، مثل بث مباشر لعشرات الساعات، لكن خبراء التعليم يحذرون من أنها
حلقة ترفيه أكثر منها مساراً للتعلم العميق.
معنى الإنسانية وسط شاشة قصيرة
في الإطار
الإسلامي، معنى التربية لا ينحصر في المعرفة فقط؛ بل في التوجيه، والصبر، والمثال
الحي، فالتعليم الحقيقي يُبنى على التفاعل الإنساني، وليس على شاشة تفتقر إلى
المشاعر.
لا بد أن تكون
منصّات مثل «تيك توك» مساعدًا لا بديلاً، وأن نغرس في أبنائنا قدرة على التمييز
بين المحتوى المفيد والسطحي.
الحل الأمثل
في مواجهة ظاهرة
«تيك توك» كمعلّم بديل، يؤكد الخبراء أن الحل الأمثل ليس في منع الأطفال من
المنصة، بل في تمكينهم من أدوات التفكير النقدي والوعي الإعلامي المتعمّق، عبر
توازن دقيق يحفظ حقوق اللحظة ومتعة الاستخدام، ويصون العقل من الانجراف؛ ولذلك
حددوا عدداً من الطرق للوصول لهذه النتيجة، منها:
1- التوعية الإعلامية منذ الصغر:
تذكر Maggie McGuire، المديرة التنفيذية لمنصة Pinna، أن الوعي
الإعلامي يعزز قدرة الأطفال على الوصول إلى المعلومات وتحليلها وتقييمها، وفهم
الفرق بين الحقيقة والخيال.
بينما ترى
الأكاديمية Vivian
Maria Vasquez، أستاذة في
الجامعة الأمريكية، أن الأطفال الذين يتعلّمون أن النصوص والصور قد تنقل رسائل
محددة يصبحون أكثر قدرة على اتخاذ قرارات واعية، وفهم «لماذا نصدق أو لا نصدق
شيئًا».
كذلك أكدت دراسة
مراجعة منهجية أن الوعي الإعلامي يُطوّر مهارات التفكير النقدي، والإبداع،
والمقاومة أمام التلاعب، بل ويساعد على التفاعل المسؤول مع الوسائط الرقمية.
2- المشاركة والتوجيه الأسري والمجتمعي:
فالمنهج
الإعلامي لا يرتبط بالوقت، بل بكيفية استخدامه؛ إذ رصد بحث أوروبي أن الطريقة التي
يُستخدم بها الإعلام أهم من كمية الاستخدام، وهو ما يعكس أهمية التوجيه الجيد
والفعّال.
أيضاً، فإن
تشجيع الآباء على مشاهدة المحتوى مع الأطفال ومناقشة الرسائل، والوعي بطرق التلاعب
الإعلانية والمصداقية، ثبت أنه يولّد وعياً نقدياً، ويطوّر التفكير المنطقي لدى
الأطفال.
3- المناهج التربوية والمبادرات الدولية:
Renee Hobbs، رائدة في مجال الوعي الإعلامي، أثبتت من
خلال دراسات ميدانية، أن تعليم الـ«Media Literacy» يؤدي إلى
تحسين قدرة الطلاب على تحليل الإعلانات والأخبار، ويعزّز الفضول الفكري والانخراط
المدني.
مراكز مثل «MediaSmarts» في كندا تنتج موارد تربوية تروّج للوعي الإعلامي والنقدي عبر
وسائل تعليمية تدعم التمييز بين الحقيقة والتضليل.
وفي ختام هذا
المشهد، يتّضح أن العلاج ليس في الحجب أو المنع الكامل، بل في بناء جيل يملك أدوات
التمييز والتفكير النقدي ولا يكتفي بسطوع الشاشة.
ففي حين أننا لا
نريد حرمان أطفالنا من لحظات المتعة، نرغب ألا تستنزف منها معاني عميقة، نسعى إلى
أن يضحكوا ويتعلّموا، شريطة ألا يُغرَّروا بمحتوى يأخذهم بلا عودة.
ولتحقيق ذلك، لا
بد من تأسيس مجتمع واعٍ؛ الأسرة تنشئ، والمدرسة تنهج، الدولة تُهيّئ، والمنصة
تُقنّن، حينها نحمي عقول الأطفال ليس من الشاشة، بل من جهلنا عنها.
بهذا التوازن،
تكون التربية منتصرًة، والشاشة خادمة، لا قائداً.
اقرأ أيضاً: