دقات ناقوس وقرع أجراس (1)

تربية الأبناء بين المادة والقيم.. دليل النجاة

د. هيام عباس

28 أكتوبر 2025

1814



إنها قلوب شباب وفتيات شَاهَدَ جيلهم ما تقشعر له الأبدان ويشيب له الولدان من أحداث، لو حكاها لنا السابقون لكذبناها من فرط إمعانها في شدتها وقسوتها، وما أدت إليه من السقوط في منعطفات فكرية وتقلبات سياسية وتحولات ثقافية، ومحاولات دنيئة لإخفاء الموروث من الأصول المحترمة والمعتبرة، مع إصرار بقوة على ضياع الهوية وانفلات زمام القيم والأخلاق.

شعاع الأمل في مواجهة التحديات

من أجل الحفاظ على ما بقي في الصدور الشابة من نقاء، حين أخذوا يتلمسون طريقًا للخلاص مما يحيط بهم من أفكار وسلوكيات، اختلط فيها العلم بالجهل والحديث الجاد باللهو والعبث، وعلت شهرة لاعب الكرة ومطرب المهرجانات على العلماء في كل مجال.

وإلى الكثيرين ممن بقي لديهم شعور بكيانهم وقوتهم الكامنة، إلى الذين راحوا يستشرفون نقطة ضوء تنير لهم الدرب، هؤلاء هم شعاع الأمل الذي يجب أن نوجه طاقاتنا إلى تنمية قدراتهم، ونمدهم بما يفتح آفاق عقولهم ويعينهم على ما عزموا.

أزمة المظاهر.. حين يصبح «البراند» هو الذات!

إلى الفتيات اللاتي لا يعرفن من تطوير الذات إلا الجديد من «البرندات»، والطرق الحديثة في الملابس؛ وتفاصيلها وألوانها وإخراج طرف القميص من البنطلون جريًا وراء كل ما هو موضة، والتمعن في إبراز تلك الخصلة من الشعر؛ لتطل من تحت الحجاب لعل نعومته وطراوته تفصح عن نوع الرغوة التي غُسل بها أو الجل الذي استخدمته في تثبيته والعناية به، ثم كيفية الأوضاع المناسبة لأطرافها من هيكلها العام في جلسات التصوير؛ لإبراز مفاتن أنوثتهن حين يضعن صورهن على صفحات «سناب شات» و«إنستجرام»، وصورة يومية بملابس متجددة تنشرها؛ لتحصد مشاهدات، فتكسب مكافأة مادية، تتمثل في خصم نسبة بالمائة لشراء منتج استهلاكي ذي رغوة أو عطر.

تلك النظرة المادية البحتة، واللهاث وراء المادة هو ما يدفعهن إلى التطلع إلى أي طريق يُحصل منه على المال بأقل جهد وبدون بذل، فجهات الإنفاق المفتوحة أمامهن للتأنق والزينة والظهور كثيرة هي، وتحتاج ألف ألف مما لا تستطيع كسبه من مال حتى لو كان ذاك المال هو نقود الدروس الخاصة التي اقتطعت من جلد ولحم الآباء والأمهات.

إن تلك النماذج وإن كانت قليلة، لكنهنَّ مؤثرات، بل ربما أصبحن قدوات تمتثل بهن الفتيات الصغيرات، رغم حماية الأسرة لهن وتتبعهن والإصغاء إليهن وصونهن عن ذاك العبث، وتقديم قدوات بديلة، بل حقيقية، ترقى بشخصياتهن الحالمة البسيطة.

آهٍ لتلك الرأسمالية اللعينة، التي لا تدع مجالاً للقناعة في عيون أشخاص هذا العصر، ولا تدع مجالاً للشفقة في قلوب أصحاب رؤوس الأموال التوَّاقين إلى الربح السريع الكثير مهما كانت الطرق إليه، إلا من رحم ربي، ممن اختار الآخرة وسعى لها سعيها!

أخطار «السوشيال ميديا» على براءة الأطفال

إلى كل عبقري صغير يتوق إلى العلم وينغمس في القراءة بنهم، ليملأ فراغ عقله اليافع بقراءة كل ما تقع عليه عينه البريئة، ويستمع إلى كل ما يُلقى أمامه على «يوتيوب»، لا يفرّق بين السيئ والرديء، وهل يناسبُ ذلك سنَّ الرابعة عشرة أم يُخِلُّ ببراءته؟

هنا يأتي دور المحيطين به، في البيت والمدرسة والنادي، بالتقرب منهم ومجاراتهم الحديث لا فقط الأوامر والنواهي والإلزام، بل صداقتهم ومشاركتهم الاهتمامات وما يشاهدون، وما يبث في نفوسهم الأمان، فيفصحون ويسألون ويفهمون دون خوف أو وَجَل.

إلى أطفال المرحلة الابتدائية الذين خرجوا إلى الدنيا، فلم يجدوا مؤنسًا لهم في طفولتهم إلا الهاتف المحمول وألعابه وما حوى «يوتيوب» و«تيك توك» من برامج مصورة لشخصيات أرادت الشهرة، فقدمت ما لا يمكن أن يكون محتوى، وأصبحوا بخوائهم يساهمون في تربية جيل خاوٍ من الطموحِ، إلاَّ طموحًا تملُّكيًا يحب أن يمتلك كل ما شاهد من أنواع الترف والألعاب التي يلهُو بها أقرانه وذووهم أثناء تصوير فيديو تافه وعديم القيمة؛ ليربح آلاف المشاهدات؛ جمهورها أطفال دون سن السابعة ممن لا يجدون ما يسلي أوقات فراغهم إلا هذا السخف الفارغ من أي محتوى هادف، لانشغال بعض الأسر بالسعي إلى الرزق.

هنا يدق ناقوس الخطر أيها الآباء، كما طرحت التكنولوجيا وسائل تدمير، قدمت كذلك وسائل تدبير، هناك برامج تتحكم فيما يشاهده الصغار دون العاشرة، وهناك ساعة باليوم يجب أن يقضيها الأب مع أولاده، لا حجة له بأنه يسعى على الرزق، أولادك هم الرزق، فإن تهاونت في الحفاظ عليهم، لا يعوضهم أي رزق مهما كان نوعه.



تحديات تربية الأبناء.. بين توفير المال وبناء الإنسان

ومن أجل هموم كثيرة يحملها القلب اللاهث في أروقة الحياة لآباء وأمهات يلهثن لا من أجل تربية الأبناء، بل لتوفير نقود التعليم والكساء والطعام والشراب والرحلات والمظاهر التي يتمنونها للأبناء، ليكونوا في مستوى أقرانهم ومعارفهم وجيرانهم.

آباء يلهثون لادخار ثروة تؤمِّن مستقبل الأبناء؛ فتقيهم شر المشقة التي عانوا هم منها، حتى طغت المادة على كل شيء، وأصبحت هي في ذاتها هدفًا بعد أن كانت وسيلة للوصول إلى الهدف.

لكنْ مهلاً، قد تسألني: وأنا ماذا يؤرقني؟ الآن أجيبك.

هل انتبهت، يا عزيزي، إلى كل تلك التحولات الفكرية، والحياتية والأخلاقية والسلوكية التي أصابت المجتمع كله، بكل أطيافه وأعماره؟ حتى العادات والتقاليد لم تسلم من تلك التحولات الغريبة عن مجتمعنا وأخلاقنا وتراثنا وواقعنا، هناك غزو مخيف.

الوثنية الجديدة.. أزمة القيم والأخلاق

مخيف لأنه خفي ومتسلل، غزو للعقول، تثيرها وتبهرها وتسلبها عقالها، فتنزع منها الروح، يتسلل إلى القلوب والعقول دون أن نراه، لكن له صوت، صوت التحررية الخادعة المقيتة، تحررية بلا حدود، لا عين لها تبصر، لا يرى الفرد خلالها إلا نفسه فقط.

إنها أزمة القيم والأخلاق، إنها الوثنية الجديدة، وثنية ذات طابع جديد، ومختلف ومخيف، وثنية لا تكون العبودية فيها لحجر أو شجر، بل للمادة والمال والنفس وشهواتها وأطماعها وطموحاتها.

حيث أسلمنا العقل لكل ما لا قيمة له يتحكم فيه تحكمًا لا إراديًا ويوجهه إلى حيث لا يعلم، وفقدنا فيه عذرية الإيمان ونقاء القلب وطهارة الجيب.

ترى أتلك هي المُعَاصرة؟! أم تلك هي الحداثة؟! كنا -حين كنا نمتلك عقولنا- إذا عُرض علينا أمر نسأل عن مدى مشروعيته، حتى الصغار منا، كانوا يستأذنون، ويفهمون، ويخافون، ويخجلون، وكانوا يسألون ويتعلمون، الآن أصبح السؤال عندهم هو: كم أكسب؟ وكيف أكسب؟ وماذا أكسب؟ دون أدنى اعتبار للحكم الشرعي في كل ذلك، أو للعرف، أو رؤية المجتمع.

تسأل: ماذا يؤرقني؟ هذه الأشياء تؤرقني، وهناك أمور أخرى تؤرقني، أهمها الوهن الذي أصاب علاقاتنا كلها، أو جُلُّها.

ففي علاقة الآباء بالأبناء، أصبح المال سيد الموقف، والآباء ماكينات صرافة، مهمتهم هي جلب المال، متجاهلين أن الأبناء هم الاستثمار الأمثل، وأن تربية الأبناء على الدين والقيم والأخلاق وتنمية المواهب واكتشاف الذات عندهم هو المستقبل، وليس المال، فالمال طريق وصول لا غاية المأمول.

وفي العلاقات الإنسانية، أصبحت المصلحة سيدة كل المواقف، هي الدافع والمحفز وهي المتحكم، على قدر المصلحة المرجوة تكون قوة العلاقات، والصلة بينهما طردية، حتى على مستوى العلاقات الأسرية، بل لقد طالت أولى هذه العلاقات سموًا وشرفًا ومكانة؛ علاقة الأزواج.



الخلافات الزوجية.. عقد زواج أم ورقة يانصيب؟

تقوم الحياة الأسرية على المودة والرحمة، داخل أسوار بيت واحد، الزوجان هما طرفا عقد التوافق الزوجي المتضمن التعاون، القائم على الاستمرارية مدى الحياة، بما تضمنته وثيقة الزواج، تلك الورقة الراقية، التي هي عقد وثيق طرفه الأعلى هو الله الخالق، الذي جعل الزواج أمرًا فطريًا منذ نشأة الجنس البشري؛ فأسكن آدم قلب حواء، وجعلها بين أضلعه، لقد أصبحا طرفي ذلك الميثاق، العهد الإلهي الذي أخذه كل منهما، وأصبح عليه الوفاء بما التزم به فيه.

لكن إن هبت ريح الخلاف نرى من بين هؤلاء من يُمَزِّقُ هذا العقد، ويهدم صرح المودة والرحمة؛ ويطفو ما لم يكن في الحسبان، الاتفاق المعاكس، اتفاق ضمني لم يوقع عليه أحدهما، مقتضاه أن يدمر كل منهما الآخر، ويعصف بكل من يتواجد داخل ذلك الصراع العدائي الجديد، حتى لو كان فلذة الأكباد هم الضحية.

بدأ أحدهما الصراع فانساق الآخر يزكي نار الخصومة حتى لو كان الأبناء هم حطبها، لقد أَسْلَمَا وَتَلَّهُمَا للشيطان يتلاعب برأسيهما، ويشرب الخمر في قيعان عيونهما، حتى تطاير الشر من مقلتيهما، وملأ الغلُّ القلوب، وصعدت مصطلحات ما عهدناها في مجتمعنا؛ الذكورية والنسوية والتنافسية، والمُشاحَّة، والحقوق القانونية، ومحكمة الأسرة.

عندئذ نقول: لا فائدة، ولا حاجة لتدخل حكم من أهله وحكم من أهلها، إذا بلغنا هذا الحد فكيف نرعى زينة الحياة ورونقها ومستقبل الأمة وقلب فتوتها وعين بصيرتها وملف مستقبلها؟! وكيف نعيدهم ونعيذهم ونحفظهم؟!

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة