العدوان على قطر كمرحلة فارقة في الصراع بالمنطقة

في 9 سبتمبر 2025م، أعلنت حكومة دولة
الاحتلال استهداف قيادات من حركة «حماس» في العاصمة القطرية الدوحة، مؤكدة في
الساعات الأولى نجاح العملية واغتيال عدد من قيادات الحركة الفلسطينية التي قالت:
إنهم «شاركوا في التخطيط لعملية السابع من أكتوبر».
تبين لاحقاً أن أعضاء وفد التفاوض في «حماس»،
الذي استهدفهم القصف «الإسرائيلي» لم يصابوا بأذى؛ حيث استشهد في العملية عدد من
مرافقيهم، ما عُدَّ فشلاً استخباراتياً وعملياتياً للاحتلال، وزاد من حرج حكومته
التي كانت تمنّي النفس بـ«إنجاز» كبير تتفاخر به.
كانت العملية عدواناً سافراً بكل معنى
الكلمة، وتطوراً بالغ الخطورة في دلالاته، فقد اغتالت قوات الاحتلال عدداً كبيراً
من قيادات المقاومة الفلسطينية السياسيين والعسكريين والأمنيين في غزة، ورئيس مكتب
حركة «حماس» السياسي إسماعيل هنية في طهران، وقبل ذلك نائبه صالح العاروري في
الضاحية الجنوبية لبيروت، لكن العملية الأخيرة كانت مختلفة بكل المقاييس.
الدلالة الأخطر للعدوان «الإسرائيلي» على قطر أنه لم تعد ثمة خطوط
حمراء في سلوك الكيان بالمنطقة
فالبلد المستهدَف هنا ليس دولة في حالة
اشتباك مباشر مع الاحتلال، ولا دولة حدودية مع فلسطين المحتلة المعروفة بدول
الطوق، بل هي قطر؛ إحدى حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، ووسيط رئيس
في التفاوض من أجل وقف إطلاق النار، حيث استهدف الاحتلال على أراضيها وفد التفاوض
الذي -وللمفارقة- كان يناقش مقترحاً لوقف إطلاق النار!
أكثر من ذلك، وبخلاف المرات السابقة،
سارعت حكومة الاحتلال «الإسرائيلي» برئاسة بنيامين نتنياهو لتبني العملية رسمياً،
وتوضيح أنها أتت بعملية قصف من الجو (وليس بطريقة يمكن التنصل منها)، ثم أكد
نتنياهو نفسه أنها لن تكون الأخيرة، محذراً الدول التي تستضيف «إرهابيين»، على حد
وصفه، إذا لم تعتقلهم أو تطردهم من أنه سيتصرف بنفسه، ثم جاء رئيس الكنيست أمير
أوحانا بالحقيقة المرة في الأمر، مؤكداً أن العدوان على قطر «رسالة للشرق الأوسط
برمته».
التنصل الأمريكي
وعليه، وبغض النظر ما إذا كان استهداف وفد «حماس» التفاوضي عملاً انتقامياً، أم للاستفادة منه في السياسة الداخلية، حيث
تقترب «إسرائيل» من استحقاق انتخابي، فإن الدلالة الأبرز تتعلق بالأساس في استهداف
قطر وانتهاك سيادتها بما تمثله وبمن تشابههم؛ ولذلك تبدو هنا تصريحات نتنياهو،
وأوحانا، خطيرة، ويزيد من كارثية دلالاتها أن الإدارة الأمريكية عدّت الهجوم «عملاً
نبيلاً» في أصله (رغم أن وفد التفاوض كان يناقش مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترمب
نفسه)، مبدية بعض التحفظ على المكان، الذي هو محاولة للتنصل أكثر من كونه تحفظاً
أصيلاً من حيث المبدأ، حيث لا يخفى على أي عاقل أن «إسرائيل» لم تكن لتُقْدم على
الهجوم على قطر بدون علم إدارة ترمب المسبق وضوئها الأخضر.
أحد أهم أسباب التغول «الإسرائيلي» في المنطقة أن نتنياهو وحكومته لم
يدفعا ثمناً لما اقترفاه من جرائم
وقال الرئيس الأمريكي ترمب بعد فشل
الهجوم وإثر التنديد الدولي الواسع به: إن «إسرائيل» لن تهاجم قطر ثانية، لكن مَن
ما زال في العالم بأسره يثق بتصريحات رئيس أبرز سمات رئاسته التبذبذ في المواقف
والتبدل في التصريحات والمواقف، وهو الذي يبتز كل حلفاء الولايات المتحدة ويضغط
عليهم اقتصادياً وتجارياً وسياسياً؟!
لا خطوط حمراء للكيان
إن الدلالة الأبرز والأخطر للعدوان «الإسرائيلي»
على قطر أنه لم تعد ثمة خطوط حمراء ولا تابوهات في سلوك الكيان في المنطقة، فلا يوجد
قانون دولي، ولا قانون دولي إنساني، ولا أعراف حرب، ولا حصانة لوفد تفاوضي أو وسيط،
ولا حتى حماية لحلفاء واشنطن في المنطقة؛ يعني ذلك أن العدوان على قطر قد يتكرر
بذريعة وجود قيادات من «حماس» على أراضيها، أو يحصل عدوان مماثل على تركيا بذريعة
مشابهة، أو على أي دولة عربية أو إسلامية بأي ذريعة مختلقة.
يؤكد ذلك ويبرر له كلامُ المبعوث
الأمريكي لسورية ولبنان (وسفير الولايات المتحدة لتركيا) توم براك الذي قال: إن «إسرائيل»
لم تعد تعترف بحدود «سايكس – بيكو» ولا تحترمها أو تتوقف عندها، وإنها سوف «تضرب
حيث تريد وكيف تريد» وفق ما يقتضيه أمنها القومي، من وجهة نظرها.
وقد سبق لنتنياهو أن تحدث عن «مهمة إلهية»
يتسشعرها في نفسه لتحقيق حلم «إسرائيل الكبرى» الذي يضم عدة دول عربية وإقليمية
كلياً أو جزئياً، بالنفوذ والسيطرة إن لم يكن بالاحتلال الكامل ونقل السكان.
الجميع تحت التهديد
المختصر المباشر لكل ما سبق؛ أن الكيان
قد انفلت من كل عقال؛ منطقياً كان أم سياسياً أم مصلحياً، ليضع الجميع تحت التهديد؛
الكل حرفياً، ولئن كانت فرص تكرر العدوان على كل من لبنان وإيران وبدرجة أقل اليمن
مرتفعة أكثر من غيرها لاعتبارات عديدة، فإن ما أثبته العدوان على قطر وما تلاه من
مواقف وتصريحات أمريكية و«إسرائيلية» يؤكد أنه لا أحد في المنطقة سيكون بعيداً عن
تفكير العدوان «الإسرائيلي»، وأن تنفيذ العدوان مسألة وقت وحسب وفق مقتضيات
المصالح المفترضة وحتى المتوهمة لدى الاحتلال.
ولا بد من الإشارة إلى أن أحد أهم أسباب
هذا التغول هو أن نتنياهو وحكومته لم يشعرا بضغط حقيقي يدفعهما إلى وقف حرب
الإبادة في غزة والعدوان في المنطقة، ولا دفعا ثمناً لما اقترفاه في كل منهما، مع
غطاء ودعم، بل ومساهمة أمريكية بلا سقف أو شرط.
في هذا الإطار، كانت قمة الدوحة العربية
– الإسلامية فرصة شبه أخيرة في هذا الإطار، لإفهام حكومة العدو أو العدوان لم يمر
بلا ثمن أو على الأقل بلا ضغوط حقيقية تلوّح بإمكانية دفع الثمن، لكن البيان
الختامي للقمة خرج بديباجات مكررة من القمم السابقة تكثّف الشجب والتنديد
والمناشدات والتحذيرات بدون أي فعل مبادر أو التهديد به ولو في الحدود السياسية
والدبلوماسية.
العدوان «الإسرائيلي» المستمد قوته من أمريكا لن يتوقف إلا إذا
تغير الصمت العربي والإسلامي إلى فعل
وهي للأسف مخرجات يفهمها الاحتلال كعلامة
ضعف وتردد؛ ما يشجعاه على المزيد من المجازر والعدوان في فلسطين وخارجها؛ ولذلك،
لم يكن وليد الصدفة أن تتزامن القمة العربية – الإسلامية مع تكثيف الغارات على
قطاع غزة وتهديد نتنياهو للرئيس التركي رجب طيب أردوغان وتحريض الولايات المتحدة
الأمريكية عليه في حضور وزير خارجيتها مارك روبيو الذي يبدو أنه تقصد تقديم رسالة
دعم لنتنياهو خلال القمة.
الخلاصة تبقى كما هي عليه منذ ما يقرب من
عامين؛ كيان يتجاوز كل الحدود في غزة والمنطقة دون رادع أو مواجِه، بينما يختار هو
خصومه وأعداءه ليواجههم الواحد تلو الآخر وفق أجندته الذاتية وتوقيته والشكل الذي
يرتضيه، وتبقى له اليد الطولى، وإدارة أمريكية تمنحه الغطاء الكامل والدعم
اللامحدود، وعالم عربي وإسلامي يكتفي بالمشاهدة ومناشدة «المجتمع الدولي» ليتدخل
ويلجم «إسرائيل».
والحقيقة الواضحة وضوح الشمس أن العامل
الأول (العدوان «الإسرائيلي») المستمد قوته من العامل الثاني (الدعم الأمريكي) لن
يتغير إلا إذا تغير العامل الثالث (الصمت العربي والإسلامي).