"تجويع غزة".. فنٌّ يتقنه الاحتلال بأذرعه السياسية والعسكرية والإعلامية.. فما هي خيارات غزة؟

د. عصام يوسف

05 أغسطس 2025

79

د. عصام يوسف (*)

قطاع غزة، الواقع في الجهة الجنوبية الغربية من فلسطين التاريخية، يُعد ذا مساحة صغيرة نسبيًا تُقدَّر بنحو 365 كم² فقط، ويسكنه أكثر من 2.3 مليون نسمة، منهم ما نسبته 75% لاجئون (أي ما يقارب المليونين)، منذ قيام دولة الاحتلال، يعيشون في ثلاثة عشر مخيمًا، تفتقر جميعها لمقومات الحياة الأساسية، ما يجعله من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم. بسبب الاحتلال والحصار والحروب المتكررة من جيش الاحتلال "الإسرائيلي"، يعاني القطاع من تهالك في البنية التحتية، وأزمات في المياه والكهرباء، وضعف في القطاعات الصحية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية وغيرها من المجالات.

تشديد الحصار

بعد انتخابات حرة نزيهة بشهادات دولية، فازت فيها كتلة "الإصلاح والتغيير" في الانتخابات التشريعية (البرلمان)، لكن الديمقراطية التي يتغنى بها العالم لم تُعجبه هذه المرة، ففرض الاحتلال حصارًا مشددًا على القطاع بمشاركة وصمت دولي. تمثل الحصار في إغلاق تدريجي لمعظم المعابر التجارية وتلك المخصصة للأفراد والمرضى، مع الإبقاء على معبر واحد تدخل من خلاله كميات محدودة من المساعدات، وفرض "قائمة سلع ممنوعة" شملت أكثر من ثلاثة آلاف مادة، منها مواد البناء والوقود والمواد الخام ومواد أساسية كحليب الأطفال والقرطاسية!

كما فرض الاحتلال حصارًا بحريًا، ومنع الصيادين من العمل، وأحرق وقصف معداتهم، فكان حصارًا بريًّا وجويًّا وبحريًّا، وصفه في حينه مسؤول في منظمة أممية بأنه "غير قانوني وغير أخلاقي وغير إنساني".

تسبب كل ذلك في آثار كارثية على مختلف القطاعات، وأدى إلى انهيار شبه تام في المنظومات الصحية والصناعية والتجارية والزراعية والتعليمية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة.

كسر الجدار بين غزة ومصر

مع اشتداد الحصار ومنع إدخال الطعام لسكان غزة، اضطر السكان عام 2008م، إلى خلع الأسلاك الشائكة بين غزة ومصر، وتدفق مئات الآلاف نحو الأراضي المصرية، باعتبارها الجار الأقرب لإنقاذهم من المجاعة والموت، للخروج من كارثة إنسانية وتجويع قاتل كما يحدث اليوم. توجه الناس إلى الأسواق والمحال التجارية لشراء المواد الغذائية والأدوية والوقود وكل ما ينقصهم، وعادوا بها إلى ذويهم في غزة لإنقاذ حياة من تبقى منهم على قيد الحياة.

أنفاق التهريب

لجأ الشعب المحاصر إلى فرض واقع جديد لكسر الحصار المفروض عليهم (بلا إنسانية ولا قانونية ولا أخلاق)، وتجلى ذلك في خطة لمحاربة الجوع وإنقاذ أهالي القطاع الذين بات الموت والفناء يهددهم. فحُفرت الأنفاق بين غزة ومصر، ما تسبب بمقتل العديد ممن حفروا هذه الأنفاق بأيديهم العارية، إلا من القليل من المعدات، في محاولة لكسر الحصار "الإسرائيلي" وإدخال الوقود والغذاء والسلع الأخرى إلى غزة.

كانت الشقيقة مصر على علم بذلك، لكنها غضت الطرف عنه. وقد قال الرئيس مبارك حينها، بعد إزالة السلك الشائك والعبور الفلسطيني السلمي للحدود: "دول ناس جعانة بتبحث عن الطعام"، وكانت تراقب وتدرك أن ما يدخل عبر تلك الأنفاق مخصص للجائعين والمحاصرين ويتم بطرق تجارية.

لاحقًا، تم الاتفاق بين الطرف الفلسطيني في غزة والسلطات المصرية على إغلاق الأنفاق، واستبدالها بخط تجاري رسمي، وفتح معبر رفح لإدخال البضائع من مصر إلى غزة، مما خفف من المجاعة وأوجد نوعًا من الاستقرار، وكل ذلك تم على مرأى من العالم، وسكت عنه حتى لا يكون شريكًا في جريمة الإبادة الجماعية، من خلال سياسة التجويع "الإسرائيلي" القاتلة وضمن سياسة العقاب الجماعي، التي تخالف القانون الدولي والأعراف الإنسانية.

حرب 2023 والحصار

مع بدء حرب الإبادة ضد غزة في أكتوبر 2023م، أعاد الاحتلال سياسة الحصار، لكن هذه المرة بشكل أشد وأقسى، حيث أُغلقت المعابر بشكل تام، بما فيها معبر رفح، ومُنع إدخال أي شاحنة مساعدات، وأُغلق البحر والجو، وقُطعت الكهرباء والمياه. ومنذ قرابة عامين، يُفرض الحصار بشكل مستمر، ويُخفف أحيانًا بإدخال كميات محدودة من المساعدات لامتصاص الضغط الدولي المتواضع، في ظل بقاء سياسة الإغلاق والحصار نهجًا معلنًا للاحتلال.

فن تعميق المجاعة

يتفنن الاحتلال "الإسرائيلي"، عبر أذرعه السياسية والعسكرية والإعلامية، في تعميق المجاعة في قطاع غزة، ومنع دخول المساعدات الإغاثية أو البضائع، مع محاولة إيهام العالم بعكس الواقع من خلال روايات مفبركة وخطوات دعائية.

فعليًّا، لا يسمح الاحتلال بإدخال أي نوع من المساعدات، وهي بالأساس مقدمة من دول عربية وأجنبية ومؤسسات إنسانية، ولا تأتي من الاحتلال.

دوره فقط هو السماح بدخولها، بحكم كونه قوة احتلال، وهو واجب قانوني لا مِنة أو كرما.

استراتيجية عسكرية

يعامل الاحتلال ملف المساعدات الإنسانية لأكثر من مليوني إنسان في غزة كجزء من استراتيجية عسكرية محكمة:

حصار شامل، منع دخول شامل، ثم سماح محدود بشروط أمنية قاسية.

مؤخرًا، أعلن الاحتلال عن إنشاء "مؤسسة غزة الإنسانية" (Gaza Humanitarian Foundation) في العام 2025م، وهي كيان خاص أُسس بالتنسيق مع شخصيات أمنية أمريكية، وبرعاية غير مباشرة من إدارة دونالد ترامب، وبدعم من شركات أمنية خاصة.

وُكّلت إليها مهمة توزيع المساعدات خلال الحرب، وفقًا لتقرير المركز الفلسطيني للدراسات "الإسرائيلية" "مدار". تعتمد هذه المؤسسة على عدد محدود من مراكز التوزيع المركزية، معظمها في وسط وجنوب القطاع، وتُدار من خلال مقاولين مسلحين، من دون إشراف مباشر من جيش الاحتلال. يروّج الاحتلال للمؤسسة كبديل عن المؤسسات الأممية والدولية، لكن الواقع يكشف غير ذلك؛ فقد تسببت هذه الآلية في سقوط شهداء ومصابين من المُجوَّعين، ربما أكثر من عدد من تلقوا المساعدات فعليًّا!

مساعدات بخلفيات أمنية

حاول الاحتلال أن يُظهر توزيع المساعدات وكأنه يتماشى مع القانون الدولي، فأسس كيانًا جديدًا بعد تشويه صورة المؤسسات الأممية والخيرية واتهامها زورًا.

لكن هذه المؤسسة الجديدة، والتي تحدثت تقارير إعلامية دولية عن خلفيات أمنية وعسكرية لمؤسسيها، واجهت انتقادات واسعة لما وُصف بأنه "موت مُحكَم". أظهرت عشرات الفيديوهات أن المؤسسة كانت تُعلن عبر "فيسبوك" عن فتح مركز توزيع الساعة 12 ظهرًا، فيتهافت الآلاف من المُجوَّعين، ثم تُعلن خلال 15 دقيقة انتهاء التوزيع لنفاد الكمية!

وهل يُعقل أن يتم توزيع آلاف المساعدات في ربع ساعة فقط؟! وفيما الناس لا يعلمون أن "التوزيع الكاذب" انتهى قبل أن يبدأ، يُطلق النار عليهم من قِبَل جنود الاحتلال وعناصر المؤسسة المسلحين – فهل يُعقل أن يحمل رجال العمل الخيري السلاح؟! وقد بلغ عدد الشهداء من منتظري المساعدات الغذائية أكثر من 550، إضافةً إلى أكثر من 3500 إصابة.

ووفق المكتب الإعلامي الحكومي، فإن 80% من شهداء المساعدات هم من فئة الشباب، و14% من الأطفال، و3% من النساء، و3% من كبار السن. لذلك، رفضت المنظمات الأممية الكبرى مثل الأمم المتحدة، والصليب الأحمر، وأطباء بلا حدود، وأوكسفام التعاون مع هذه المؤسسة، واعتبرتها خطرًا على مبادئ العمل الإنساني: السلامة، الحيادية، وعدم الانحياز.

الضوابط الأممية والأخلاقية

بموجب القانون الدولي الإنساني، وخاصة اتفاقية جنيف الرابعة (المواد 59–61) والقانون الدولي العرفي (القاعدة 55)، تقع على الاحتلال التزامات صارمة:

•        تقديم المساعدات على أساس الحاجة فقط، دون تمييز.

•        ضمان سلامة المساعدات والمنظمات الموزعة.

•        عدم استخدام التوزيع بطريقة تمييزية أو مهينة أو خطرة.

•        عدم استخدام التجويع كسلاح، باعتباره جريمة حرب وفق المحكمة الجنائية الدولية.

مسؤوليات الاحتلال

السلطة القائمة بالاحتلال مُلزمة قانونًا بتوفير الغذاء والماء والدواء والحماية للسكان تحت سلطتها، وقبول المساعدات وتنظيم توزيعها بدون تمييز.

ويُعد حرمان السكان من الطعام أو فرض العقوبات الجماعية جريمة حرب، كما نصت على ذلك محكمة روما. ينبغي تحديد أماكن توزيع آمنة، وعدم إجبار الناس على التجمع في مناطق خطرة، وتوفير وسائل نقل وتسهيلات ميدانية تضمن الأمان وتحفظ الكرامة. لكن الواقع يشير إلى عكس ذلك، حيث تُقام مراكز التوزيع في "مناطق عسكرية مغلقة"، من دون وسائل نقل، مما يعرض المدنيين للإذلال والهلاك.

آليات العمل الإنساني الصحيحة

العمل الإنساني الدولي يقوم على تنسيق الجهود بين المنظمات الدولية والمحلية من خلال مجموعات عمل قطاعية (الصحة، المياه، المأوى...) لضمان فعالية الاستجابة الإنسانية. ورغم التعقيدات في مناطق النزاع كالسودان وسوريا، إلا أن هناك التزامًا واضحًا من المنظمات الإنسانية بتقديم مساعدات مُنقِذة للحياة، بخلاف ما يحدث في غزة.

النظام الدولي والقانون

تحظر اتفاقية جنيف الرابعة استخدام التجويع كسلاح، وتوفر حماية خاصة للمدنيين تحت الاحتلال. وقد صدر قرار مجلس الأمن 2720 بتاريخ 22 ديسمبر 2023م، يطالب بإيصال المساعدات وفتح المعابر فورًا. أما الادعاء بأن "الأونروا" تعمل لصالح الفصائل، فهو باطل، كما أكدت الوكالة، ويخالف القانون الدولي. ومن أبرز القوانين ذات الصلة:

•        تسهيل عبور المساعدات – اتفاقية جنيف الرابعة، المادة 59

•        حظر التجويع – النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية

•        حيادية وشفافية التوزيع – القانون الدولي العرفي

•        توفير أماكن آمنة وعدم فرض التنقل القسري – ICRC

هل ستصمت غزة طويلًا؟

يبقى السؤال: هل ستصمت غزة طويلًا؟.. أعتقد أن استمرار التجويع والحصار قد يدفع السكان إلى ما حدث عام 2008م، من كسر الأسلاك العازلة مع مصر، أو العودة لخيار مسيرات العودة السلمية باتجاه الوطن المحتل. هذه خيارات واقعية ينبغي ألا تستبعد، فالمُجوَّع لن يصمت طويلًا.

وعلى الجوار أن يدرك أن الغزيّ إذا وُضع بين خيارَي الموت جوعًا أو محاولة فرض واقع الحياة بجهده، فسيختار خيار الحياة.

(*) رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم غزة.

 


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة