التعاون مع العدو.. مقاربة فقهية

د. فاطمة حافظ

25 نوفمبر 2025

79

مسألة التعاون مع جيش العدو -كما هو حاصل من قبل بعض العصابات في فلسطين المحتلة- مسألة قديمة قدم التاريخ الإنساني، فلم تخل أمة من وجود أفراد يتعاونون مع العدو ويدعمونه ويكونون له عوناً على أبناء جلدتهم.

ولم يكن تاريخ الإسلام استثناء من ذلك، فمنذ اللحظات التأسيسية للدولة الإسلامية كان هناك من يمد العدو بأخبار المسلمين، كما فعل حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه حينما كاتب قريشاً بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ولذلك شغلت هذه الواقعة وأمثالها من بعدها ذهن الفقيه قديماً وحديثاً الذي راح يبحث عن تكييف هذه المسألة وكيفية التعامل معها وسد السبل أمام انتشارها والحد من آثارها.

استند الفقيه في نظره إلى عدد من النصوص الثابتة المحكمة كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ) (الممتحنة: 1)؛ وهي الآية التي نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وقوله تعالى: (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) (المائدة: 80)؛ الذي جعل الولاية سبباً مباشراً لسخط الله.

وكذلك قوله تعالى: (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ) (آل عمران: 28)؛ الذي جعل موالاة الكافرين سبباً للانسلاخ من ولاية الله، وهو أمر منطقي إذ لا تجتمع ولاية الولي وولاية عدوه في الوقت نفسه، كما يقول الإمام الرازي.

وتعاون المسلم مع عدو المسلمين يسمى «المظاهرة»؛ وتعني أن يكون المسلم عوناً وظهيراً لغير المسلمين ضد المسلمين، وهي قريب من «الموالاة»؛ أي القرب والدنو والميل القلبي والمحبة، وينشأ عنها أعمال الجوارح كالنصرة والمعاونة والتجسس له.

وقد بحث الفقهاء في طبيعة الموالاة وقسموها إلى مراتب لكل منها حكمه، فالمرتبة الأولى: موالاة ومحبة الكافر لأجل كفره، واعتبروها كفراً، والثانية: موالاة لأجل الدنيا ومنافعها، وهي محرمة ومذمومة، وحول هذا المعنى يقول أبو حيان الأندلسي في تفسيره «البحر المحيط»: «وَمَنْ تَوَلَّاهُمْ بِأَفْعَالِهِ دُونَ مُعْتَقَدِهِ وَلَا إِخْلَالٍ بِإِيمَانٍ فَهُوَ مِنْهُمْ فِي الْمَقْتِ وَالْمَذَمَّةِ، وَمَنْ تَوَلَّاهُمْ فِي الْمُعْتَقَدِ فَهُوَ مِنْهُمْ فِي الْكُفْرِ»، والثالثة: موالاة قد تنتج عن قرابة أو مودة أو ما شابه، وهذه لا بأس بها إن كانت تخص غير الحربيين.

وتشغل المرتبة الثانية جل الجدل الفقهي قديماً وحديثاً؛ لأن غالب من والى العدو سواء بالتجسس له أو بالقتال إلى جانبه أو غيره كان لأجل تحصيل عرض دنيوي زائل دون أن يمس ذلك إيمانه بالله ورسالته الخاتمة، وخلاصته أن تلك الموالاة لا يُكفّر صاحبها وإن كان ارتكب إثماً وجرماً لا يغتفر، قال ابن تيمية فيمَن يقاتل المسلمين مع التتار: «لا يقاتل معهم غير مكره إلا فاسق، أو مبتدع، أو زنديق»، فوصفهم بخصال ثلاث ليس فيها وصف الكفر.

وقد اختلف الفقهاء في حكم الموالين للعدو -لا سيما من كان عيناً لهم ودلهم على عورات المسلمين وراسلهم بأخبارهم- على ثلاثة أقوال:

الأول: أن المسلم إن تجسس على المسلمين يُقتل: وهو قول الإمام مالك وبعض أصحابه، وأحد الوجهين في المذهب الحنبلي، وبه قال ابن تيمية الذي عد قتلهم جهاداً.

وحجة هذا الفريق أن التجسس سعي بالفساد، وضرره على المسلمين كبير؛ فوجب منعه، وقد قاسوا التجسس على القتال في صفوف العدو، فوجد أن ضرر التجسس أعظم؛ لأنه يكون خفية ويكشف عن مواضع الضعف، لذلك ذهب بعض المالكية إلى عدم قبول توبة من تاب منهم وقتله.

الثاني: أنه لا يُقتل، وإنما يعزر تعزيراً شديداً، وهو قول الحنفية والشافعية، وقد أجاب أبو يوسف عن سؤال هارون الرشيد فيما يتعلق بالحكم في الجواسيس وهم من أهل الذمة أو أهل الحرب أو من المسلمين: «فإن كانوا من أهل الحرب أو من أهل الذمة ممن يؤدي الجزية من اليهود والنصارى والمجوس فاضرب أعناقهم، وإن كانوا من أهل الإسلام معروفين فأوجعهم عقوبة، وأطل حبسهم حتى يُحدثوا توبة».

وقال الأوزاعي: إن كان مسلماً عاقبه الإمام عقوبة ونكله، وغربه إلى الآفاق، وإن كان ذمياً فقد نقض عهده.

الثالث: أنه لا يُقتل إلا إذا تكرر منه الخيانة والتجسس، أما إذا لم يتكرر فإنه يعزر وهو قول ابن الماجشون المالكي.

وإذا كان الفقهاء التراثيون قد توزعوا على هذه الآراء، فإن جل الفقهاء المحدثين يرجحون جواز قتل كل من ظاهر وناصر أعداء المسلمين؛ ذكر ذلك رشيد رضا تعليقاً على قول ابن تيمية: «من جمز إلى معسكر التتر ولحق بهم؛ ارتد وحل ماله ودمه»، فقال: «وكذا كل من لحق بالمحاربين للمُسلِمين وأعانهم عليهم، وهو صريح قَوله تعالى: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (المائدة: 51)» (مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، 35/ 3).

كما أفتت بذلك لجنة الفتوى بالأزهر الشريف في نوفمبر 1951م في فتوى لها بشأن التعاون مع الاحتلال الإنجليزي جاء فيها: «إن الدين الإسلامي يحرم التعاون مع الإنجليز في أي صورة من صوره، ومن فعل شيئاً من ذلك بعد معرفته لحكم الدين فهو خائن لدينه ووطنه وعقوبته القتل في المذاهب الإسلامية الراجحة» (مجلة المسلمون، العدد الثاني).

واستمر هذا النهج لدى المؤسسة الأزهرية وعلمائها؛ إذ كتب الشيخ محمود شلتوت في كتابه «من توجيهات الإسلام»، وذكر أن هناك صوراً للموالاة، وأنها تتراوح بين الترويج لأفكارهم ودعم مصنوعاتهم وصولاً إلى العمل معهم في المصانع والمعسكرات العسكرية ونقل الأخبار إليهم والترتيبات التي يعدها المؤمنون لمكافحتهم، واعتبر ذلك «جاسوسية على الوطن وأهله، يهدر في حكم الشرع والدين دم القائمين به ويجعلهم في حكم المرتدين».

وثمة رأي ثان نجده لدى الشيخ الطاهر بن عاشور؛ وهو أن حكم هؤلاء الموالين للعدو يوكل إلى اجتهاد الإمام؛ لأن التجسس يختلف المقصد منه إذ قد يفعله المسلم غروراً، ويفعله طمعاً، وقد يكون على سبيل الفلتة، وقد يكون له دأباً وعادة. (التحرير والتنوير).

وعلى كلا الرأيين، فإن ترك هؤلاء المساندين للعدو، وخصوصاً إن كان العدو مغتصباً للأرض والعرض، كما هي الحال في غزة غير جائز، بل يجب على من ولي أمر المسلمين أن يقطع دابر هؤلاء بأي عقوبة يراها؛ قطعاً للفتنة وحفظاً للبلاد من الضياع.



اقرأ أيضاً:

حكم العملاء

جواسيس وخلل استخباري!

مصير الطابور الخامس.. لماذا يتخلى المحتل عن عملائه بعد انتهاء مهمتهم؟!

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة