التربية بين الجَلَد والرفاهية.. درس أطفال غزة للعالم

عثمان الثويني

29 أكتوبر 2025

427

في زمن تتشابه فيه المظاهر وتختلف الجواهر، تقف صورتان متقابلتان كأنهما كفّتا ميزانٍ مختلٍّ؛ في الأولى طفلٌ غزّيٌّ يركض حافي القدمين خلف شاحنة مساعدات، يحمل في عينيه بريق الصبر ودهشة النجاة، وفي الثانية طفلٌ من أطفال الأرض يبكي بحرقة لأن بطارية لعبته فرغت، أو لأن الإنترنت انقطع لدقائق، مشهدان كافيان ليختصرا حكاية الأجيال؛ جيلٌ صُنع في مدرسة الجلد، وآخر نشأ في حضن الراحة.

ليست المسألة ترفًا في المقارنة ولا محاولة لتجميل الألم، بل هي بحث في معنى التربية حين تُنزع منها الخشونة التي تصنع الإنسان، فالتربية على الجلد ليست قسوة، وإنما وعي بأن الحياة لا تَمنح شيئًا بلا ثمن، وأن القوة لا تُكتسب بالدفء وحده، بل بملامسة الخطر، واحتمال التعب، وتذوّق مرارة الانتظار.

أطفال غزة لم يتعلّموا الجلد من دروس مكتوبة، بل من الحياة نفسها، حين صار الليل امتحانًا، والماء موردًا نادرًا، والضحكة تحديًا، هناك، يُربَّى الصغير على أن يستيقظ على صوت الطائرات دون أن يفقد توازنه، وعلى أن يحمل همّ أسرته وهو لم يبلغ الحلم بعد، فينضج قبل أوانه ليصير رجلًا في عمر الطفولة.

أما أطفال الأرض، فقد ربّتهم شاشاتٌ لا تعرف الألم، وأجهزةٌ تستجيب قبل أن يُطلب منها شيء، وعوالم افتراضية تُشبع الرغبة قبل أن تنشأ الحاجة، صاروا يعرفون كل شيء عن العالم إلا كيف يُمسك المرءُ زمام نفسه عند أول وجع، وفقدوا الجلد لأن أحدًا لم يربّهم على احتماله، ولم يدرّبهم على الانتظار، ولم يسمح لهم أن يشعروا بثقل المسؤولية، ولو قليلاً.

غزة اليوم تقدّم درسًا للعالم في التربية بالفطرة، لم تُخطّط لمناهجها، ولم تُدرّب أبناءها في معاهد تطوير الذات، لكنهم خرجوا من ركام البيوت وهم يعرفون أن البقاء يحتاج قلبًا صلبًا لا هاتفًا جديدًا، وأن الحياة تُصان بالعزم لا بالراحة، في غزة لا وقت للترف، ولا مساحة للأنانية؛ هناك يتعلّم الطفل أن نصيبه من الخبز قد يكون نصف لقمة، لكنه يكفيه إن شاركه غيره.

إن الفارق بين أطفال غزة وأطفال الأرض ليس في الجغرافيا، بل في المعنى الذي تُزرع به الحياة في نفوسهم، طفل غزة يتربى على أن لكل نعمة ثمنًا ولكل وجع رسالة، بينما طفل الرفاهية يتربى على أن كل رغبة حقٌّ مستحقّ، في الأول تتكوّن المناعة النفسية، وفي الثاني تتكوّن الهشاشة الوجودية.

ما نحتاجه اليوم ليس أن نعيش مآسي غزة لنتعلّم منها، بل أن نستيقظ على وعيها التربويّ؛ أن نعيد للجيل معنى الجهد، ونقصّ عليهم قصص الجلد بدل قصص الرفاه، ونزرع فيهم لذّة التحدي لا متعة السهولة، أن نعلّم أبناءنا كيف يتحمّلون العطش ساعة، وكيف يصبرون على التأجيل، وكيف يتذوّقون جمال الحياة حين تأتي بعد تعب طويل.

إن أطفال غزة ليسوا مجرّد ضحايا حرب، بل أساتذة جيلٍ فقد القدرة على الصمود، هم يربّوننا من بعيد، ويذكّروننا أن الإنسان لا يُقاس بما يملك، بل بما يحتمل، وبينما ينشغل أطفال الأرض بجمع الأشياء، ينشغل أطفال غزة بجمع قواهم كي يبقوا أحياء، تلك هي كفّتا الميزان التي تكشف لنا أن التربية الحقيقية ليست في الرفاه، بل في الجلد، ولا في النعومة، بل في الخشونة التي تلد الرجولة، وتصنع الإنسان.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة