سلاح المقاومة.. معادلة القوة في قلب التفاوض

منذ بداية الحرب على غزة، تحوّل سلاح المقاومة إلى عنصر مركزي في المعركة
العسكرية، لكنه في الوقت ذاته أصبح العنصر الحاسم في معركة التفاوض، ليس بوصفه
ورقة للمساومة، بل كضمانة بقاء، وعمق إستراتيجي، وخط أحمر يحمي الإنجاز الوطني
ويمنع انزلاق المقاومة إلى مسارات التسوية أو الاستنزاف.
هذا التحليل يتناول أبعاد هذا السلاح، من موقعه في طاولة المفاوضات، إلى
وظيفته الميدانية، وموقعه في الإدراك الجمعي الفلسطيني، إلى جانب سيناريوهات
التعاطي المستقبلي معه.
أولًا: السلاح خارج الحساب التفاوضي:
الرسالة المركزية التي أوصلتها المقاومة لكل الوسطاء: سلاحنا ليس مطروحًا
للنقاش، لا ضمن تهدئة، ولا صفقة، ولا إدارة مدنية مؤقتة.
السلاح في غزة ليس ملفًا سياسيًا، وإنما ملف وجودي، تجربة الفلسطينيين
الممتدة منذ نكبة عام 1948م، ومرورًا بأوسلو، ووصولًا إلى الحصار، أكدت أن ما
يُنتزع بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، وأن من سلّم سلاحه، خسر القدرة على حماية
شعبه.
ولذلك، جاء الرفض المطلق لأي محاولة لربط التهدئة، أو إدخال المساعدات، أو
الإعمار، بشرط نزع السلاح أو تجميده، لأن في ذلك محاولة لتفكيك أهم معادلة فرضتها
المقاومة: «لا أمن للعدو دون حقوق لشعبنا».
ثانيًا: المقاومة تفاوض من موقع الندية:
القوة الميدانية التي أثبتتها المقاومة خلال الحرب، ومرونتها التنظيمية
والقتالية، جعلتها لاعبًا لا يمكن تجاوزه، والمفاوض الفلسطيني لم يعد يفاوض من
موقع الضعف أو الاستجداء، بل من موقع من يمتلك أوراق الردع، وضبط الميدان، وإرباك
حسابات العدو في كل لحظة، وما أفرزته الحرب الأخيرة من توازن جديد، أكد أن لا
تفاوض دون نار، ولا تسويات دون تكلفة على الاحتلال، وهنا تحوّل السلاح من أداة
قتال إلى رافعة تفاوض إستراتيجية.
ثالثًا: عمق الردع الحقيقي:
ما رسخته المقاومة على مدار الشهور الماضية هو أن الضربات النوعية لا تزال
ممكنة، رغم الاستنزاف والجراح، القصف لم يُنهِ البنية العسكرية، ولم يُفكك منظومة
القيادة والسيطرة، الأنفاق لا تزال فاعلة، الصواريخ تُطلق في العمق، والميدان
يتحرّك بإيقاع دقيق، وهذا ما أجبر الاحتلال على إعادة التفكير قبل التوغل البري،
بل والتراجع عن خطط إعلان «الحسم»؛ لأن الكلفة ستكون غير قابلة للتحمّل.
رابعًا: المناورة السياسية بغطاء النار:
«حماس» وفصائل المقاومة لم ترفض المبادرات السياسية، لكنها لم تدخل أي
مفاوضات بلا غطاء ميداني، وهذه المرونة لا تعني التنازل، بل توظيف اللحظة السياسية
لصالح الأهداف الوطنية، وتحقيق مكاسب مدنية دون أن يكون الثمن هو المساس بالسلاح،
ومن الذكاء السياسي للمقاومة تجلى في إبقاء النار مشتعلة في الخلفية، مع العمل على
خطوط التفاوض بصبر وحذر.
خامسًا: نزع السلاح.. مشروع ميت يتجدد:
منذ ما بعد حرب عام 2014م، لم تتوقف بعض القوى عن طرح سيناريوهات «نزع
السلاح مقابل الإعمار».
لكن هذه الطروحات سقطت في أول اختبار شعبي؛ لأن المجتمع الفلسطيني، خاصة في
غزة، يدرك أن الكرامة لا تُستعاد بالحياد، وأن الاحتلال لا يرحم الطرف الأضعف،
التجارب أثبتت أن من سلّم سلاحه أصبح رهينة للإملاءات الأمنية والمالية، وخارج
دائرة القرار.
سادسًا: التهدئة المؤقتة.. استراحة تكتيكية:
إن حصل اتفاق تهدئة، فسيكون من وجهة نظر المقاومة استراحة لإعادة التموضع،
وليس نهاية للمواجهة، والعمل المقاوم لن يتوقف، بل قد يشهد مرحلة من التحصين
والإعداد، والتطوير التكنولوجي، والتقييم العسكري، والتهدئة التي لا تتضمن
انسحابًا كاملاً، ورفع الحصار، وضمان تدفّق المساعدات بلا ابتزاز، لن تُمنح أي
شرعية داخلية.
سابعًا: ابتزاز الإعمار.. مقابل نزع السلاح:
المقاومة تُدرك أن الإعمار ملف إنساني بامتياز، لكنها ترفض أن يُستخدم
كأداة ضغط أو مساومة.
الشعب الفلسطيني يستحق الحياة الكريمة دون أن يُطلب منه خلع سلاحه، أو
التخلي عن خيار المقاومة، ويطرح «الإعمار مقابل الهدوء» وقد يُناقَش، لكن «الإعمار
مقابل نزع السلاح» طرح ساقط سياسيًا وأخلاقيًا.
ثامنًا: سيناريوهات المرحلة القادمة:
أمام المقاومة اليوم عدة سيناريوهات في ضوء التصعيد والمفاوضات الجارية:
1- نجاح صفقة تبادل تؤدي إلى وقف إطلاق نار مؤقت، دون المساس بالبنية
العسكرية.
2- مراوغة «إسرائيلية» جديدة في تنفيذ المرحلة الثانية، تؤدي إلى تفجير
ميداني جديد.
3- طرح مبادرات دولية لفرض ترتيبات أمنية وإنسانية تشمل مراقبة المعابر،
وربما إشراف أممي، يُحاول من خلالها دمج ملف السلاح بطريقة غير مباشرة.
السيناريو الثالث هو الأخطر، لأنه يستهدف المقاومة بآليات ناعمة وليس
بالقوة المباشرة، ويحتاج إلى وعي إستراتيجي وميداني للتعامل معه.
تاسعًا: البُعد الإقليمي لسلاح المقاومة:
سلاح غزة لم يعد شأنًا فلسطينيًا داخليًا فقط، بل أصبح جزءًا من معادلة
الردع الإقليمي.
ما جرى في معركة «طوفان الأقصى» أربك حسابات «إسرائيل» ليس فقط داخل
فلسطين، بل على حدودها الشمالية، والشرقية، وحتى على مستوى الخليج، وبالتالي،
الحديث عن تفكيك هذا السلاح يعني عمليًا تفكيك القوة الإقليمية الوحيدة غير
الرسمية التي أربكت «إسرائيل» والولايات المتحدة معًا.
عاشرًا: السلاح في ميزان الداخل الفلسطيني:
السلاح يمثل ركيزة من ركائز التوازن السياسي داخليًا، في ظل ضعف المشروع
الوطني التقليدي، وغياب البدائل العملية، فإن سلاح المقاومة يحمل شرعية جماهيرية
وأخلاقية، خاصة في غزة، ويمثل رمز الكرامة والسيادة، هو ما يمنع الانفجار الداخلي،
وما يُفشل مشاريع استبدال المقاومة بجسم هجين خاضع للتمويل أو التنسيق الأمني.
حادي عشر: المعركة المقبلة.. السلاح أول الأهداف:
أي عدوان قادم سيبدأ بمحاولة ضرب بنية المقاومة، «إسرائيل» تدرك أن سلاح
غزة هو عقدة الأمن القومي «الإسرائيلي».
لكن التجربة أثبتت أن المقاومة باتت تمتلك منظومة إخفاء وإدارة وتطوير
معقدة جدًا، تجعل من المستحيل القضاء عليها بضربة واحدة أو حتى حملة موسعة.
خلاصة القول: سلاح المقاومة ليس ملفًا تكتيكيًا يمكن تفكيكه بجولة سياسية،
بل هو اليوم جوهر المعادلة، وعصب الردع، ورمز الهوية الوطنية، وكل محاولات نزع هذا
السلاح أو تحييده أو الالتفاف عليه، ستسقط كما سقطت محاولات سابقة؛ لأن الشعب
الفلسطيني لم يعد يراهن على المجتمع الدولي، ولا على التسويات الهشة، بل يراهن على
ما يملكه من قوة إرادة، وكتائب تقاتل وتفاوض من خلف البنادق لا من خلف التنازلات.
هذا السلاح ليس أداة فقط، بل هو الشرط الأول لأي معادلة قادمة، وصانع
التوازن، وضمانة ألا يعود الاحتلال إلى غزة كما دخلها قبل عام 2005م.