كيف نجعل ذا القعدة ساحة تدريب لذي الحجة؟
إن المسلم حاله وسمته دائمًا يكون التقلب
في العبادات والانتقال من طاعة إلى طاعة، سعيًا منه لنيل مرضاة ربه ومغفرته ورضوانه.
ولطالما ضرب لنا السلف الصالح والرعيل الأول
أروع الأمثلة في ذلك، لنجد أنفسنا أمام جيل رباني تتعلم منه الأمة كيف تتعرض لنفحات
ربها لتحصل على نعيمه في الآخرة وتتجنب عذابه.
ومن هذا المنطلق، ها هو أحد المواسم الربانية
التي جعلها الله هدية للعباد يتزودون فيها أثناء مسيرتهم ورحلتهم إلى الدار الآخرة،
لأنه أحد الأشهر الحُرم وبوابة استقبال موسم الحج الذي تتنزل فيه الرحمات من رب الأرض
والسماوات.
فالأشهر الحرم يجب أن يكون المسلم أشد طاعة
لربه فيها وأبعد ما يكون عن المعصية، فالمسلم يجب أن يقضي وقته بين ذل وانكسار بين
يدي مولاه وخضوع ورجاء وخشوع، ليزداد إيمانًا في الأشهر الحرم، مستغفرًا ربه باكيًا
على ما مضى، مغتنمًا لما قد دنا، فكما نعلم فإن شهر ذي القعدة من أشهر الحج، فقال تعالى
في كتابه الكريم: (الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) (البقرة: 197).
وبالتالي، فإن ذا القعدة يُعد بمثابة مدخل
ومقدمة لذي الحجة، الذي فيه أفضل أيام الدنيا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام»؛ أي عشر ذي الحجة، فأصبح
بذلك ذو القعدة ميدانًا للاستعداد وفرصة للتوبة والأوبة وفرصة ثمينة للإكثار من العمل
الصالح والتقرب من رب العالمين، الذي ينتظر عباده المذنبين الأوابين التوابين.
وحين ميّز الله تعالى الإنسان بالعقل على
غيره من المخلوقات في هذا الكون، فكان حري بالمؤمن أن يستخدم عقله فيما فيه نفعه للدار
الآخرة وليوم الحساب، فهذا الشهر تتجه فيه القلوب إلى الاستعداد لخير أيام الدنيا،
وتهيئة النفوس لاستقبال عشر ذي الحج.
وقد روى أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ
مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ شَهْرُ
مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ»، ولا شك أن هذا التخصيص يدل على مكانتها
وفضلها، ولهذا عظّم السلف هذا الشهر، وامتنعوا فيه عن الظلم، تعظيمًا لما عظّمه الله
عز وجل.
فلو أردنا الوقوف مع قول أحد رجال السلف الصالح
لنتعلم منه، فلنستمتع إلى قول قتادة الذي سطر بكلمات من ذهب عبارة مجملة تُعد مثابة
قاعدة عظيمة حين قال: «إِن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا، من الظلم فيما
سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء».