اتفاق غزة.. تتويج لصمود الشعب الفلسطيني وكسر لغطرسة الاحتلال

بعد عامين من حرب الإبادة والتجويع والتدمير
الممنهج، يخرج الفلسطينيون من أتون النار باتفاق تاريخي يضع حدا لواحدة من أكثر الحروب
قسوة في العصر الحديث.
لكن هذا الاتفاق ليس منة من أحد، ولا ثمرة
ضغوط سياسية عابرة، بل حصيلة صمود أسطوري لشعب قرر أن يعيش بكرامة، ومقاومة أدارت
الحرب بوعي ومسؤولية حتى فرضت شروطها على الاحتلال.
ثمرة الصمود والتضحيات
لم يكن ما تحقق وليد لحظة، بل جاء بعد عامين
من الثبات الميداني والجماهيري، قدم فيه الفلسطينيون أبهى صور الصبر والتحدي.
رغم المجازر والجوع والحصار والدمار، لم تنكسر
إرادة الفلسطينيين، بل ازدادت قوة وإصراراً على التمسك بالأرض والحق والمستقبل، ومن
رحم هذا الصمود خرج الاتفاق كتحول سياسي عميق.
لقد أثبتت غزة أن المقاومة خيار حياة لشعب
يؤمن أن الحرية تنتزع لا تمنح.
فكل بيت صمد، وكل أُم ودّعت أبناءها، وكل
طبيب أو متطوع واصل عمله تحت القصف، أسهم في كتابة هذه اللحظة السياسية الفارقة.
فشل المشروع «الإسرائيلي»
دخل الاحتلال الحرب بأهداف واضحة؛ القضاء
على «حماس»، ونزع سلاحها، وفرض وصاية خارجية على غزة، واستعادة الأسرى بالقوة.
لكن النتائج جاءت معاكسة تماماً؛ فالمقاومة
لم تُهزم، والبنية التنظيمية لم تُكسر، والأسرى لم يُستعادوا بالقوة، بل عبر اتفاق
فرضت فيه المقاومة قواعد اللعبة.
لقد فشل الاحتلال في تحقيق أي من أهدافه،
وفقد هيبته العسكرية والسياسية، فيما تعمقت عزلته الدولية، وانهار خطاب «الردع الكامل»
الذي طالما تباهى به قادته.
وبات واضحاً أن نتنياهو خاض أطول حرب في تاريخ
«إسرائيل» ليخرج منها بأضعف نتيجة سياسية وعسكرية في تاريخه.
جوهر اتفاق غزة ومضامينه
تقوم بنود الاتفاق على 5 محاور أساسية تمثل
جوهر مطالب المقاومة والشعب الفلسطيني:
1- وقف شامل لإطلاق النار ووقف العدوان في
جميع مناطق القطاع.
2- انسحاب قوات الاحتلال من المناطق المأهولة
شمالاً وجنوباً تمهيداً لانسحاب كامل.
3- عودة النازحين إلى بيوتهم وأراضيهم دون
قيود أو شروط.
4- إدخال المساعدات الإنسانية وإطلاق عملية
إعادة الإعمار بإشراف وضمانات دولية.
5- تنفيذ صفقة تبادل الأسرى تشمل أصحاب المؤبدات
والأسرى القدامى وأسرى غزة.
هذه البنود ليست تفاصيل تفاوضية، بل إقرار
بهزيمة أهداف العدوان، وإعادة تعريف لمعادلة الردع التي تحكم العلاقة بين المقاومة
والاحتلال.
البعد السياسي لاتفاق غزة
سياسياً، يشكل الاتفاق انعطافة في الوعي الدولي
تجاه غزة والمقاومة.
فبعد عامين من محاولات شيطنة المقاومة ونزع
شرعيتها، اضطرت القوى الكبرى للاعتراف بها كطرف لا يمكن تجاوزه في أي ترتيبات قادمة.
كما أنه يعيد الاعتبار للبعد الوطني الفلسطيني
في مواجهة مشاريع الإدارة الدولية والوصاية الأجنبية التي روجت في الأشهر الأخيرة،
من جهة أخرى، يكشف الاتفاق هشاشة البنية السياسية «الإسرائيلية».
فنتنياهو، الذي تعهد بالقضاء على «حماس»،
وجد نفسه يوقع اتفاقاً يمنحها شرعية ميدانية وسياسية غير مسبوقة، ويكرس فشل سياساته
أمام الرأي العام «الإسرائيلي» والعالمي.
القراءة «الإسرائيلية» لاتفاق غزة
التحليلات العبرية التي صدرت عقب توقيع الاتفاق
تؤكد حجم الارتباك داخل «تل أبيب»، ففي تقرير نشره المحلل العسكري في صحيفة «يديعوت
أحرونوت» آفي يسسخاروف، أقر بأن حكومة نتنياهو نجحت في إطلاق سراح جميع الأسرى الأحياء
وبعض الجثامين، من دون انسحاب كامل من غزة، لكنها في المقابل منحت «حماس» مكاسب سياسية
غير مسبوقة.
وأضاف أن الحركة حصلت على وقف شامل للقتال
بضمانات دولية يصعب على «إسرائيل» خرقها، وعلى اعتراف دولي واسع لم تحظ به من قبل،
فيما دخلت «إسرائيل» في عزلة سياسية خانقة نتيجة لسياسات حكومتها الفاشلة.
كما أوضح أن التحول الأمريكي الكبير، المتمثل
بقرار الرئيس دونالد ترمب فرض وقف الحرب على نتنياهو، جاء عقب الغارة «الإسرائيلية»
على قيادات «حماس» في قطر، التي أثارت غضب واشنطن باعتبارها استهدافاً لحليف إستراتيجي.
ويختم يسسخاروف بالقول: إن «حماس» لن تتخلى
عن سلاحها لا الآن ولا في المستقبل القريب إلا بعد قيام دولة فلسطينية، وإن الانتصار
الكامل الذي وعد به نتنياهو بقي شعاراً فارغاً من المضمون.”
هذه الشهادة «الإسرائيلية» تعكس إقراراً نادراً
بفشل الاحتلال في تحقيق أهدافه، وبانتصار الإرادة الفلسطينية في معركة البقاء والوعي.
المقاومة وإدارة المعركة بوعي ومسؤولية
أثبتت المقاومة خلال الحرب وبعدها أنها تدير
الميدان والسياسة بعقل إستراتيجي متزن، يجمع بين الصلابة العسكرية والمرونة السياسية.
وتعاملت مع الوسطاء الإقليميين (مصر، قطر،
تركيا) بروح مسؤولة دون تفريط في الثوابت، ووضعت مصالح شعبها فوق الحسابات التكتيكية.
لقد أدارت المفاوضات بروح القيادة لا رد الفعل،
ونجحت في تحويل التضحيات الكبرى إلى مكاسب سياسية ملموسة.
إدارة المقاومة لهذه المعركة رسختها كفاعل
وطني جامع، لا كتنظيم محلي محاصَر، وأثبتت أن مشروعها لا يقوم على الميدان وحده،
بل على رؤية سياسية ناضجة تمتلك القدرة على التفاوض من موقع القوة.
البعد الشعبي والإعلامي لاتفاق غزة
الاتفاق لا يخص المقاومة وحدها، بل هو ثمرة
شعب بأكمله عاش عامين في الجحيم دون أن ينكسر.
ولذلك، فإن التناول الإعلامي للاتفاق يجب
أن يعكس روح الانتصار الواعي لا الاحتفال العابر.
الانعكاسات الإقليمية والدولية لاتفاق غزة
لن تقتصر تداعيات الاتفاق على غزة وحدها،
بل تمتد إلى الإقليم والعالم.
فقد أثبتت التجربة أن التطبيع مع الاحتلال
لم يجلب الأمن ولا الاستقرار، وأن الشعوب العربية ما زالت ترى في فلسطين بوصلتها
الأخلاقية والسياسية.
أما دولياً، فقد أجبر فشل الحرب وجرائمها
الرأي العام العالمي على إعادة النظر في الموقف من «إسرائيل»؛ ما عزَّز عزلتها وكشف
زيف خطابها الديمقراطي.
كما أن التحول الأمريكي في فرض الهدنة يؤكد
أن الولايات المتحدة بدأت تتعامل مع غزة باعتبارها واقعاً سياسياً لا يمكن تجاهله،
وأن أمن المنطقة بات مشروطاً بإنهاء الاحتلال لا بتوسيع دوائر الحرب.
اتفاق غزة كمرحلة لا كنهاية
لا ينبغي التعامل مع الاتفاق كخاتمة للصراع،
بل كبداية لمرحلة جديدة من النضال الوطني والسياسي.
فهو محطة على طريق طويل من التحرر، تتطلب
وعياً وتنظيماً ووحدة صف فلسطينية حقيقية، تستثمر الإنجاز ولا تضيعه.
ما تحقق في غزة ليس هدنة فقط، بل انتصار للإنسان
الفلسطيني على آلة الإبادة، وانكسار لغطرسة الاحتلال الذي ظن أنه قادر على إخضاع
شعب بالإبادة والتجويع.
لقد أثبتت التجربة أن القوة ليست في السلاح
وحده، بل في الإيمان والوعي والوحدة.، وها هي غزة، بعد عامين من النار، ترفع رأسها
لتقول للعالم: ما لم ينتزع بالدم لن يفرض بالحصار، وما لم يكسر في الحرب لن يهزم
على الطاولة.