فاتورة باهظة الثمن تدفعها المرأة في معركة المساواة

أميرة زكي

26 نوفمبر 2025

115

في ردهات المطاعم اللندنية الفاخرة، تجلس مجموعة من النساء في خريف العمر، يلتقين كل يوم إثنين في لقاءات تتداخل فيها الذكريات مع أحلام لم تكتمل، في عيونهن حكايات جيل ضل طريقه في منتصف الرحلة، فوجد نفسه بين يديّ خاليتين وقلوب أثقلها التعب، إنهن نساءٌ بلغن القمة التي حلمت بها الحركات النسوية وفكرة المساواة مع الرجل، ليكتشفن أنها قمة جرداء، لا تُطل إلا على وادٍ موحش من الوحدة والفراغ.

صرخة في عالم لا يسمع!

في مقالها بصحيفة «ديلي ميل» البريطانية، تسرد الكاتبة بترونيلا وايت رحلتها الفكرية من التشبع بالمبادئ النسوية في الصغر، إلى مراجعة الذات في الكِبَر، حيث وجدت نفسها أمام عُمرٍ مضى سدى، تبنّت خلاله أفواهاً لم تثمر سوى العزلة والقلق الوجودي، إنها قصة جيل كامل من النساء الغربيات اللواتي استهلكتهن معركة المساواة مع الرجل، ففقدن في خضمها أنفسهن وفقدن معنى الأنوثة الحقيقي.

تلتقي وايت بصديقاتها كل يوم إثنين، جميعهن في منتصف الخمسينيات، يحملن شهادات عليا ويمارسن مهناً مرموقة، لكنهن يشتركن في مصير واحد؛ عزوبة بلا أبناء، وقلوب تعصف بها رياح الفراغ، تتساءل وايت ورفيقاتها: أين موقع المرأة في المجتمع حين تبلغ الخمسينيات، ولا تجد حولها سوى الفراغ؟ هذا التساؤل ليس حكراً على دائرة صغيرة، بل يمثل تياراً متصاعداً في الغرب، حيث تعيد كثيرات من النسويات السابقات النظر في مسار الحركة النسوية ونتائجها.

عندما تتحول الأحلام إلى كوابيس

وفي خضم الدعوات المتصاعدة للمطالبة بالمساواة الحسابية بين الجنسين، تخرج المرأة العربية كل صباح بحلمها وكفاحها، منغمسة في معادلة رقمية تدعي المساواة مع الرجل، تسعى فيها لإثبات ذاتها، لكنها تعود في المساء منهكة القوى، تحمل صورة وردية عن المساواة رَسَمها إعلام منمق، لتجد نفسها عاجزة أمام أدوارها الفطرية كزوجة وأُم، في معركة تستنزف طاقاتها ولا تترك لها مجالاً للتنفس.

إنها المعاناة المزدوجة التي تواجهها المرأة المعاصرة؛ معركة خارجية لإثبات الذات في سوق العمل، ومعركة داخلية للحفاظ على كيان الأسرة، إنها معادلة مستحيلة تدفع المرأة ثمناً باهظاً من صحتها النفسية والجسدية، ومن علاقاتها الأسرية، بل ومن أنوثتها نفسها.

رؤية متوازنة في عالم متطرف

تُعلق د. هبة عبدالرؤوف على هذه المعضلة بالقول: النسوية الغربية تنطلق من رؤية «النوع» التي تذيب الفوارق بين الذكورة والأنوثة، بينما يقدم الإسلام رؤية متوازنة تحترم الفطرة وتصون الكرامة.

وتضيف: البديل النسوي هو كالمستجير من الرمضاء بالنار، مؤكدة أن بضاعة النسوية فاسدة لا نريدها لنا ولا لأبنائنا.

وفي حوار مع «المجتمع»، تقدم د. لانة الصميدعي، الداعية والباحثة ومستشارة العلاقات الأسرية، رؤية عميقة لهذه الإشكالية، قائلة: ليس من الحكمة أن أساوي بين شخصين مع اختلاف المقاييس والصفات والأسس والسيكولوجية لكل منهما، بل الصواب فكرة العدل، وهذا لا يعني أن نقلل من المرأة، فلقد اعتنى الإسلام بالمرأة وأدخلها في مجال التمريض والتجارة والحرب والتدريس والاستشارة.

وتؤكد الصميدعي، رئيسة جمعية المرأة المسلمة للمستقبل، أن هناك أموراً تتساوى فيها المرأة مع الرجل في الإسلام كحفظ العفة وغض البصر، لكن الإسلام لا يجيز لأي من الطرفين أن يتصارع مع الآخر فيما خصه الله به.

الفكرة التي دمرت النساء

وتشير د. الصميدعي إلى الآثار المدمرة لفكرة المساواة المطلقة على المجتمعات الغربية والعربية على حد سواء، قائلة: فكرة المساواة مع الرجل دمرت كثيراً من النساء، أقف على عشرات الحالات من العنف والخلع والتعنيف بسبب تأثير الأفكار الخاطئة عن المساواة وما تبعه من أفكار منحلة، وكذلك الجانب السيئ من وسائل التواصل الاجتماعي والمفاهيم التي زادت عدد الطلاقات واللامسؤولية وارتفاع الخيانات.

وترى أن هذه الأفكار تسببت في استهلاك نفسي تسبب في امتلاء مستشفيات الأمراض النفسية بالمرضى من النساء اللواتي دفعت بهن معركة المساواة إلى حافة الانهيار.

التمييز الإيجابي ضد المرأة

وتكشف الصميدعي عن جانب خفي من معاناة المرأة في ظل هذه الأفكار، قائلة: منذ أن خلق الله الكون تم تحديد أدوار منوطة بالرجل والمرأة، لكن للأسف ذهب بعض دعاة الحضارة إلى التسفيه والتقليل من بعض أدوار المرأة، ومنها رعاية البيت والأمومة، وعندما يقال عن امرأة: إنها ربة منزل، يصاغ الأمر وكأن ربة البيت لا تعمل.

إنها معضلة العصر كيف أصبحت الأمومة والزوجية من الأدوار الثانوية في حياة المرأة؟! كيف تحولت ربة المنزل من صانعة الأجيال إلى كائن غير منتج في عرف المجتمعات الحديثة؟! إنها المفارقة التي تدفع المرأة لتضحي بأقدس أدوارها في سبيل أدوار أقل قيمة وأهمية.

فاتورة مجحفة تدفعها المرأة

وتنبه الصميدعي النساء إلى حقيقة الخدعة الكبرى، قائلة: على النساء ألا تنخدع بفكر «الإندبندنت ومان» فهي خدعة تم صناعتها لجعل المرأة في حرب ظالمة مع الأهل ومع الزوج.

وتكشف عن أحد الآثار الخطيرة لهذه الأفكار على العلاقات الأسرية قائلة: بعض الذكور استغلوا الفكرة لإجبار المرأة على العمل والإنفاق على المنزل حتى ضاعت هيبتهم وقوامتهم.

واستطردت: هذا لا يعني ألا تعمل المرأة، ولكن ينبغي تنظيم الوقت وتقسيمه، وأن تكون المرأة في سعة، ولا تظلم نفسها أو زوجها وأطفالها، ولا تكون مستنزفة.

العدل بديلاً عن المساواة

وتؤكد الصميدعي الفرق الجوهري بين مفهومي المساواة والعدل، فتقول: لا يجب تغذية المرأة بفكرة المنافسة والمصارعة وكسر المحارة التي تحتويها بحجة أنها تنافس الرجل، فأدوار المرأة مع الرجل تكاملية وليست منافسة.

وتتابع أن الرؤية الإسلامية المتوازنة تحفظ للمرأة كرامتها وأنوثتها، وفي الوقت نفسه لا تحرمها من حقها في العمل والإبداع والمشاركة المجتمعية، هي رؤية تقوم على مبدأ التكامل لا التنافس، والتعاون لا الصراع.

نحو مصالحة مع الفطرة

قصة النساء في المطاعم اللندنية ليست مجرد حكاية عن وحدة وعزوبة، بل هي قصة عن خيبة أمل جيل كامل ضحى بجوهره في سبيل صورة مزيفة عن التحرر، إنها تحذير للمرأة العربية من السير في نفس الدرب، والوقوع في نفس الأخطاء.

إن المصالحة مع الفطرة الحل الوحيد لأزمة المرأة المعاصرة، مصالحة تعترف باختلاف الأدوار بين الرجل والمرأة دون أن يعني هذا تفضيل أحدهما على الآخر، مصالحة تدرك أن الأنوثة ليست نقصاً، وأن الأمومة ليست عيباً، وأن الزوجية ليست استعباداً.

إن المرأة التي تبحث عن حريتها في تقليد الرجل، هي كمن يبحث عن الماء في الصحراء، كلما ظن أنها وجدته، اكتشفت أنه سراب، أما المرأة الحكيمة فهي التي تبحث عن حريتها في تحقيق ذاتها بما يتوافق مع فطرتها، فتجمع بين الإنجاز العملي والاستقرار الأسري، بين العطاء المجتمعي والسلام النفسي.

إنها معادلة صعبة، لكنها ليست مستحيلة، معادلة تحتاج إلى وعي مجتمعي، وإلى رجال يقدرون المرأة ولا يستغلونها، وإلى نساء يعرفن حقيقتهن ولا ينخدعن بشعارات براقة تدفعهن إلى التضحية بأنفسهن وأسرهن في سبيل أوهام.

بينما تواجه المرأة العربية اليوم تحدياً وجودياً، فهي بين مطرقة التقاليد الثقافية التي قد تكون مجحفة في بعض الأحيان، وسندان الموجة النسوية الغربية التي تهدد هويتها وفطرتها، إلا أن الطريق الوسط هو ما تحتاجه المرأة العربية؛ هو الطريق الذي يحفظ لها كرامتها ويحترم خصوصيتها، وفي الوقت نفسه يمكنها من المشاركة الفاعلة في بناء المجتمع.



اقرأ أيضاً:

أنا غير ملزمة بشيء!

المرأة.. وخطر «الفيمينزم»

المرأة في ظلال الإسلام.. تكامل مع الرجل

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة