التقنية كأداة صراع
التنافس التكنولوجي بين أمريكا والصين وملامح نظام عالمي جديد
شهد العالم خلال السنوات الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في حدة التنافس
التكنولوجي بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية، حيث لم يعد
هذا التنافس مقتصرًا على الاقتصاد أو التجارة، بل أصبح يمسّ صميم الأمن القومي
والتفوق الإستراتيجي لكلا البلدين؛ المجالات التقنية المتقدمة، مثل أشباه
الموصلات، والذكاء الاصطناعي، وشبكات الجيل الخامس، أصبحت ساحة صراع مستعرة، تشهد
فرض قيود، وعقوبات، واستثمارات هائلة لبناء منظومات تكنولوجية مستقلة.
وتأتي أهمية هذا الموضوع من كونه لا يؤثر فقط على علاقات الدولتين الأعظم
في العالم، بل يمتد تأثيره إلى مختلف جوانب الاقتصاد العالمي، ويهدد استقرار
النظام الدولي، حيث إن تشظي سلاسل الإمداد، والانقسام التقني، وتزايد التوترات
الجيوسياسية، جميعها نتائج مباشرة لهذا التنافس؛ ما يجعل من الضروري تحليل أبعاده
وتداعياته على العالم أجمع.
أولاً: تأثير التنافس التكنولوجي على سلاسل الإمداد
العالمية:
- حرب أشباه الموصلات وتأثيرها على الاقتصاد العالمي:
من أبرز مظاهر التنافس التكنولوجي ما يُعرف بـ«حرب الرقائق» (Chip War)، التي تدور
رحاها حول السيطرة على صناعة أشباه الموصلات، القلب النابض للتكنولوجيا الحديثة، الولايات
المتحدة فرضت منذ عام 2019م قيودًا صارمة على تصدير الرقائق والمعدات المتقدمة إلى
الصين؛ ما أدّى إلى اضطراب واسع في الإمدادات العالمية، وارتفاع تكلفة الإنتاج،
وتباطؤ الابتكار في العديد من القطاعات التقنية.
- القيود الأمريكية على الشركات الصينية مثل «هواوي» و«SMIC»:
من خلال فرض عقوبات مباشرة على شركات صينية كبرى مثل «هواوي» (Huawei) و«سميك» (SMIC)، سعت الولايات المتحدة إلى
الحد من قدرة الصين على تطوير تقنياتها المحلية، خصوصًا في مجالات الذكاء
الاصطناعي والاتصالات المتقدمة، هذه الخطوات لم تضعف فقط الشركات المستهدفة، بل
أثرت أيضًا على شركات وشركاء عالميين يعملون ضمن سلاسل التوريد المرتبطة بها.
- معاناة الدول النامية بين قطبي التكنولوجيا:
الدول النامية وجدت نفسها في موقع هشّ ضمن هذا التنافس، حيث تواجه خيارًا
صعبًا بين الانضمام إلى المعسكر الأمريكي أو المعسكر الصيني، وهو ما يفرض عليها
التزامات تقنية واقتصادية قد تضر بمصالحها الإستراتيجية، كما أن محدودية الوصول
إلى التكنولوجيا المتقدمة تُبطئ من جهود التنمية والرقمنة في هذه الدول.
- تقارير مراكز الأبحاث حول تعقيد سلاسل التوريد وتباطؤ
الابتكار:
تشير تقارير مراكز بحثية مرموقة مثل مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) ومنظمة التعاون الاقتصادي
والتنمية (OECD) إلى أن السياسات التقييدية بين الولايات المتحدة والصين أفضت إلى
تعقيد كبير في سلاسل التوريد العالمية؛ ما زاد من حالة عدم اليقين في الأسواق،
وأدّى إلى تباطؤ الابتكار وتراجع كفاءة الإنتاج في قطاعات تقنية حيوية، كما حذّرت
هذه التقارير من أن استمرار هذا النهج قد يؤدي إلى تراجع النمو العالمي على المدى
الطويل.
ثانيًا: الانقسام التكنولوجي وتشظي النظام العالمي:
- الدفع الأمريكي نحو فصل تقني عن الصين:
في إطار سعيها للحد من النفوذ الصيني في مجال التكنولوجيا، تحاول الولايات
المتحدة حشد حلفائها -مثل اليابان وكوريا الجنوبية وهولندا ودول الاتحاد الأوروبي-
لمنع تصدير المعدات والتقنيات المتقدمة إلى الصين، خاصة تلك المرتبطة بالذكاء
الاصطناعي وأشباه الموصلات، هذه الخطوات تأتي ضمن إستراتيجية «فك الارتباط
التكنولوجي» (Tech Decoupling)، وتهدف إلى خلق منظومة تكنولوجية غربية مغلقة لا تعتمد على
الصين.
- الرد الصيني عبر توطين التكنولوجيا وتعزيز برنامج «صنع
في الصين 2025»
في المقابل، تسعى الصين إلى تحقيق اكتفاء ذاتي في المجالات التقنية
الحساسة، من خلال استثمارات ضخمة في البحوث والتطوير، وتعزيز سلسلة الإمداد
المحلية، وتسريع تنفيذ برنامج «صنع في الصين 2025»، الذي يهدف إلى جعل الصين قوة
رائدة في عشرات المجالات التكنولوجية المتقدمة، بما فيها الروبوتات والحوسبة
الكمومية والتكنولوجيا الحيوية.
- ظهور كتل تقنية متضادة وانقسام رقمي عالمي:
نتيجة لهذا التوجه الثنائي، بدأ العالم يشهد نشوء كتلتين تقنيتين منفصلتين؛
الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة، والكتلة الآسيوية بقيادة الصين، هذا
الانقسام يُنتج بيئتين تقنيتين غير متوافقتين، تختلفان في البنية التحتية،
والمعايير، والسياسات، ويفرض هذا الواقع على الدول الأخرى، خاصة النامية منها،
اتخاذ قرارات صعبة بشأن التحالفات التقنية؛ ما يعمّق الانقسام الدولي.
- تأثير الانقسام على الاقتصاد العالمي والتعاون الدولي:
وفقًا لتقارير صادرة عن صندوق النقد الدولي (IMF) ومنتدى الاقتصاد العالمي (WEF)، فإن هذا الفصل التقني قد
يؤدي إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة تصل إلى 7% على المدى
الطويل، كما أنه يعمّق الفجوة الرقمية بين الشمال والجنوب، ويُعقّد فرص التعاون
الدولي في مواجهة تحديات مشتركة مثل الأمن السيبراني، وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي،
والابتكار التكنولوجي الشامل.
- البعد الإستراتيجي والدبلوماسي للانقسام:
الانفصال التكنولوجي لا يُعد مسألة اقتصادية فحسب، بل هو عامل إستراتيجي
يُضعف الثقة بين القوى الكبرى ويُقلل من فعالية المؤسسات متعددة الأطراف، كلما
زادت حدة الانقسام، تقلّصت فرص الحوار الدبلوماسي وازدادت احتمالات المواجهة
المباشرة؛ ما يجعل من التكنولوجيا سلاحًا بحد ذاته في معادلة الصراع الدولي.
ثالثًا: تصاعد التوترات الجيوسياسية بسبب التنافس
التكنولوجي:
- التحالفات الإستراتيجية وتوظيف التكنولوجيا في الأمن
القومي:
لم يقتصر التنافس التكنولوجي بين واشنطن وبكين على الجوانب الاقتصادية
والتجارية، بل امتد ليصبح مكونًا جوهريًا في إستراتيجيات الأمن القومي والتحالفات
العسكرية، فالمبادرات الأمريكية مثل إستراتيجية المحيطين الهندي والهادئ، وتحالف «AUKUS»، والحوار الرباعي (QUAD)، تسعى جميعها إلى احتواء
النفوذ التكنولوجي الصيني، لا سيما في مجالات الذكاء الاصطناعي، والاتصالات،
والحوسبة الكمومية.
- سباق التسلح التكنولوجي وتأثيره على ميزان القوى
العالمي:
دخل العالم عصر «سباق التسلح التكنولوجي»، حيث أصبحت الدول تتنافس ليس فقط
على الأسلحة التقليدية، بل على امتلاك أدوات التفوق الرقمي؛ الذكاء الاصطناعي،
والتحكم بالبيانات الضخمة، والتقنيات السيبرانية، ويشير تقرير مؤسسة راند (RAND) إلى أن من يسيطر على هذه
التقنيات، سيسيطر على الاقتصاد والسياسة والعسكرة خلال العقود القادمة.
- مناطق النزاع الجغرافي كمرآة للتوتر التقني:
تشير تحليلات صادرة عن مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي (Carnegie) إلى أن
التوترات التكنولوجية تساهم في تعقيد النزاعات الجغرافية، خاصة في بحر الصين
الجنوبي ومضيق تايوان، فكلما تصاعد التنافس الرقمي، زاد احتمال أن تُستخدم
التكنولوجيا كوسيلة للردع أو الضغط العسكري؛ ما يعرض الأمن الإقليمي والدولي لأخطار
جسيمة.
- غياب أطر دبلوماسية فعالة للتعامل مع التوتر التقني:
مع تصاعد النزاع، تغيب الآليات الدولية القادرة على تنظيم المنافسة
التقنية، وتفشل المنتديات العالمية في وضع قواعد ملزمة للتعامل مع الذكاء
الاصطناعي، والأمن السيبراني، والتقنيات الناشئة، وهذا الغياب يزيد من احتمالية
وقوع صدامات مباشرة بين القوى العظمى، ويحول التكنولوجيا من أداة للنهوض الحضاري
إلى شرارة لصراع واسع النطاق.
ضرورة بناء دبلوماسية تكنولوجية عالمية
إن التنافس التكنولوجي المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين يشكل تهديدًا
حقيقيًا للنظام الدولي، إذ أدى إلى تعقيد سلاسل الإمداد، وتعميق الانقسام العالمي،
وتصعيد التوترات الجيوسياسية، وإذا استمرت هذه الديناميكية دون تدخل دبلوماسي
فعّال، فإن العالم سيكون عرضة لمزيد من الاضطراب وعدم الاستقرار.
من هنا، يصبح من الضروري إطلاق مبادرات عالمية جديدة للتعاون التقني
والدبلوماسي، مثل تعزيز دور مجموعة العشرين (G20)، أو تفعيل لجنة خبراء الأمم
المتحدة في الشؤون التكنولوجية، بحيث يجب أن تتفق الدول على مبادئ مشتركة تنظم نقل
التكنولوجيا، والأمن السيبراني، وتطوير الذكاء الاصطناعي، بما يضمن الاستخدام
السلمي والمنصف للتقنيات الحديثة، كما ينبغي دعم الدول النامية حتى لا تُهمَّش في
هذا العصر الرقمي، بل تُمنح فرصة المشاركة والاستفادة من الثورة التقنية.