جريمة الكيان الصهيوني ضد «الأقصى» تـفجِّر بركان الغضب الفلسطيني
تحولت الأراضي
الفلسطينية المحتلة وعلى مدار عدة أيام إلى ساحة حرب حقيقية لم تشهدها منذ سنوات،
وخلال أقل من ثلاثة أيام سقط ما يزيد على 60 شهيدًا فلسطينيًا في مناطق الضفة
والقطاع، وأصيب أكثر من 1000 بجراح، في حين قتل 15 جنديًا إسرائيليًا وجرح العشرات
في مواجهات عنيفة ودامية تفجرت بعد إعلان «الحكومة الإسرائيلية» عن فتح نفق تحت
المسجد الأقصى.
وقد أثارت جريمة
الكيان الصهيوني ضد الأقصى وضد أبناء الشعب الفلسطيني الذين نزفت دماء شهدائهم
وجرحاهم في ساحات المسجد الأقصى، غضبًا عارمًا في العالم العربي والإسلامي، وكشفت
حقيقة الأطماع والأهداف الصهيونية العدوانية.
وعلى الرغم من
إدراك الحكومة «الإسرائيلية» المسبق لحجم الاستفزاز الذي يشكله الاعتداء على
المسجد الأقصى وفتح النفق، فإنها لم تلق بالًا لأي ردود فعل عربية أو إسلامية،
وأصر نتنياهو طوال أيام المواجهات على موقفه الرافض الإغلاق النفق بغض النظر عن
التبعات التي يمكن أن تنجم عن ذلك.
وبخلاف الموقف
الرسمي على الصعيد العربي والإسلامي الذي جاء كعادته ضعيفًا رغم خطورة الخطوة
الإسرائيلية التصعيدية، فإن ردود الفعل الشعبية داخل الساحة الفلسطينية وفي العالم
الإسلامي جاءت قوية ومستشعرة الخطورة الهجمة الصهيونية ضد المسجد الأقصى الذي بات
يتعرض لتهديد حقيقي.
وقد أكدت
التقارير الواردة من الأراضي الفلسطينية أن المشاركة الشعبية جاءت شاملة لكل
جماهير الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة والمناطق المحتلة عام 1948م،
كما أكدت تلك التقارير أن ثورة الشعب الفلسطيني للدفاع عن الأقصى كانت عفوية
وتلقائية، مع أن السلطة الفلسطينية حاولت أن تستثمر تضحيات الشعب الفلسطيني في
مواجهاته ضد سلطات الاحتلال الخدمة أهدافها السياسية عبر الترويج إلى أن أسبابًا
أخرى وقفت وراء الاندفاعة القوية للشعب الفلسطيني وفي مقدمتها الإحباط الناجم عن
عدم التقدم في العملية التفاوضية، إلا أن جميع المعطيات والدلائل تؤكد أن الدافع
وراء الانتفاضة الشعبية العارمة كان الاعتداء الصهيوني الجديد على الأقصى.
الجماهير الفلسطينية طالبت «كتائب القسام»
بالثأر وحماس والجهاد الإسلامي تهددان بالانتقام للشهداء
وقد خرجت
مظاهرات غاضبة في عدد من العواصم العربية والإسلامية تندد بالجريمة الصهيونية ضد
الشعب الفلسطيني وضد المقدسات الإسلامية في القدس، ففي الأردن نظمت عدة مسيرات
احتجاجية في الجامعات الأردنية وفي بعض مخيمات اللاجئين، وعمت المظاهرات مخيمات
الفلسطينيين في لبنان، كما خرجت مظاهرات حاشدة في تركيا وسورية وعدد من الدول
العربية والإسلامية.
السلطة الفلسطينية.. موقف متردد
ظهرت السلطة
الفلسطينية خلال فترة المواجهات مرتبكة في التعامل مع تسارع الأحداث واتساع مساحة
المواجهات العاصفة التي تطورت على ما يبدو بصورة لم تكن تتوقعها قيادة السلطة فمع
أنها كانت ترغب في قدر من التصعيد الجماهيري المضبوط الذي يمكن أن يشكل ضغوطًا على
حكومة نتنياهو ويدفعها إلى تليين مواقفها التفاوضية إلا أن السلطة أظهرت قلقًا
وانزعاجًا واضحًا من استخدام بعض أفراد الشرطة الفلسطينية للسلاح ضد جنود
الاحتلال، وعملت على وجه السرعة على احتواء ما وصفه مسؤول الشرطة الفلسطينية نصر
يوسف خلال رده على أسئلة التليفزيون «الإسرائيلي» بالتفلت غير المقصود من قبل بعض
عناصر الشرطة الذي قال إنه يمكن أن يحدث في أي دولة من الدول.
وقد شكلت قوات
الأمن الفلسطينية حواجز بشرية لمنع المتظاهرين الغاضبين من الوصول إلى نقاط التماس
مع الوجود العسكري «الإسرائيلي» في المدن الفلسطينية، وعملت بشكل جاد على إنهاء
التحرك الشعبي في مواجهة سلطات الاحتلال وفي مدينتي رام الله والبيرة طالبت قيادة
الشرطة المواطنين بوقف المواجهات ودعتهم إلى التوقف عما أسمته بـ«الموت المجاني!»
وأكَّدت تقارير
واردة من الأراضي الفلسطينية المحتلة أن المشاركة الجريئة لبعض أفراد الشرطة
الفلسطينية في التصدي لقوات الاحتلال التي استخدمت الطائرات والدبابات في قمع
المتظاهرين، قد جاءت بصورة فردية ودون موافقة قادة الشرطة، وجاءت هذه المشاركة بعد
أن مارس المواطنون ضغوطًا شديدة على رجال الشرطة، وبعد أن تزايدت الخسائر في صفوف
الفلسطينيين الذين كانوا يسقطون بالعشرات أمام أعين أفراد الشرطة.
وقد هاجمت حركة
المقاومة الإسلامية (حماس) موقف السلطة الفلسطينية خلال فترة الأحداث واتهمتها
بالعجز عن حماية الشعب الفلسطيني وهي التي انتزعت أسلحة المجاهدين، وألقت بهم في
غياهب السجون، على حد تعبير بيان الحركة التي طالبت أفراد الشرطة بالتوجه إلى
السجون الفلسطينية وإطلاق سراح معتقلي حماس للمشاركة في مواجهة سلطات الاحتلال.
وكان المتظاهرون
وأفراد الشرطة الفلسطينية قد حاصروا نحو 47 جنديًا «إسرائيليًا» في أحد المواقع
الدينية في مدينة نابلس، وأشار أحد أفراد الشرطة إلى أنه كان بإمكانهم قتل جميع
الجنود «الإسرائيليين» ولكن بدلًا من ذلك أمرت قيادة الشرطة التي حضرت على وجه
السرعة إلى الموقع بتقديم الطعام والشراب للجنود الذين قتلوا وجرحوا عددًا كبيرًا
من المتظاهرين، كما قامت بإعطائهم هواتف نقالة كي يتمكنوا من طمأنة عائلاتهم.
ولكن ذلك لم يكن
كافيًا للتخفيف من غضب المسؤولين «الإسرائيليين» الذين قالوا إنهم ينظرون بخطورة
كبيرة إلى استخدام السلاح ضد الجنود «الإسرائيليين» من قبل الشرطة الفلسطينية، وقد
اعتبر نتنياهو استخدام السلاح ضد «الإسرائيليين» خرقًا كبيرًا وخطيرًا للاتفاقات
المعقودة بين الجانبين، وقال إن نفس الأسلحة التي استخدمها رجال الشرطة ضد القوات
«الإسرائيلية» كان يجب أن تستخدم ضد حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
واتهم وزير
الدفاع «الإسرائيلي» الشرطة الفلسطينية بأنها لا تستطيع السيطرة على الأوضاع،
معتبرًا قيام الشرطة الفلسطينية بإطلاق النار ضد الجنود «الإسرائيليين» تصعيدًا
خطيرًا وقال إن على الحكومة «الإسرائيلية» أن تدرس هذا الأمر جيدًا، مشيرًا إلى أن
رجال الشرطة الفلسطينية "أعطوا هذا السلاح من أجل محاربة الإرهاب والمعارضين
لعملية التسوية، لكنهم قاموا باستخدامه ضدنا".
ودعا عدد من
قادة الجيش «الإسرائيلي» الحكومة إلى العمل على نزع سلاح الشرطة الفلسطينية، وقال
مسؤول جهاز الأمن «الإسرائيلي» إن عرفات لم يعد يسيطر على الوضع جيدًا، وإنه يجب
التأكد مما إذا كان هناك قرار رسمي لدى أفراد الشرطة الفلسطينية باستخدام السلاح
أم أن الأمر كان ارتجاليًا.
نفق التسوية
فور اندلاع
المواجهات الدامية في الضفة والقطاع قامت القوات «الإسرائيلية» بمحاصرة المدن
الفلسطينية وعزلها عن بعضها البعض، ورابطت أعداد كبيرة من الدبابات على مداخل
المدن، كما قام الجيش «الإسرائيلي» باقتحام المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية في
الضفة والقطاع، وقد رأى المراقبون أن النفق يظهر هشاشة الاتفاقات السلمية بين
الفلسطينيين و«الإسرائيليين» والتي حظرت على القوات «الإسرائيلية» دخول المناطق
الخاضعة للسلطة والتي اتفق على تسميتها بـ«المناطق 2».
وقد بات واضحًا
أن التصعيد الخطير في المواجهات سيترك انعكاسات سلبية على العملية التفاوضية
المتعثرة أصلًا، واعتبر الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الأحداث الأخيرة بأنها أخطر
ما واجهته العملية السلمية حتى الآن، وهو ما دفع الإدارة الأمريكية إلى العمل بشكل
عاجل على احتواء الأزمة وتخفيف حدة أي قرار يصدر عن مجلس الأمن ضد «إسرائيل» على
خلفية تسببها في اندلاع المواجهات في الأراضي الفلسطينية وإفراطها في استخدام
القوة في مواجهة الأعمال الاحتجاجية على فتح النفق.
وعلى الرغم من
الآثار السلبية التي واجهتها العملية السلمية بعد تصاعد المواجهات، فإن بعض
المحللين لم يستبعدوا أن يؤدي ذلك إلى تنشيط المفاوضات وإلى إقناع الأطراف
المختلفة ضرورة العودة إلى مائدة المفاوضات، وهو ما سعت له الإدارة الأمريكية التي
دعت كلا من «إسرائيل» والسلطة الفلسطينية، والأردن إلى عقد قمة رباعية في واشنطن،
بعد أن رفض الرئيس المصري المشاركة في أعمال تلك القمة، واكتفى بإرسال وزير
خارجيته عمرو موسى إلى واشنطن المتابعة مجريات الأحداث.
غير أن مجرد
الاتفاق بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين» على استئناف المفاوضات المعطلة لا يعني
بالضرورة تحقيق تقدم في عملية التسوية على المسار الفلسطيني، خاصة وأن نتنياهو لم
يكن ضد مبدأ التفاوض، بل إنه كان يدعو إلى تنشيط المفاوضات، ولكن المشكلة كانت
تتمثل في مواقفه المتصلبة من القضايا المطروحة للتفاوض.
فقبل ساعات فقط
من اندلاع المواجهات في الضفة والقطاع كان نتنياهو يؤكد في لندن التي زارها ضمن
جولة شملت عددًا من الدول الأوروبية أن «إسرائيل» ستضغط من أجل حقها التوراتي
والأمني الذي لا نظير له في السيادة على الضفة الغربية أثناء المحادثات
المستقبلية، مؤكدًا على أن الضفة الغربية تعتبر حيوية من الناحية الاستراتيجية
لأمن «إسرائيل»، كما أعلن نتنياهو طوال أيام المواجهات أنه لن يخضع لأي ضغوط وأنه
لن يقدم أي تنازلات سياسية للفلسطينيين من أجل تهدئة الأوضاع، وفي معرض تعقيبه على
ردود الفعل العربية الغاضبة على الموقف «الإسرائيلي»، قال نتنياهو: إن ما يحدث في
الشارع العربي لا يهمني كثيرًا، إن ما يهمني هو ما يحدث في الشارع «الإسرائيلي».
دعوات للثأر
أشارت المصادر
الأمنية «الإسرائيلية» إلى أن احتمالات تنفيذ هجمات عسكرية ضد الأهداف
«الإسرائيلية» قد تزايدت بعد تصاعد الأحداث الأخيرة التي تعطي الفصائل الفلسطينية
مبررات إضافية لاستئناف الهجمات على حد قولها، كما تسود توقعات مماثلة في أوساط
السلطة الفلسطينية التي بذلت خلال الشهور الماضية جهودًا كبيرة لمنع تنفيذ العديد
من العمليات العسكرية ضد أهداف «إسرائيلية»، وقال مسؤول في السلطة الفلسطينية إنه
من المحتم أن تقوم حركة حماس بتنفيذ هجمات جديدة ضد «إسرائيل» بعد الأحداث
الأخيرة.
وقد دعت حركة
حماس بالفعل جناحها العسكري كتائب عز الدين القسام وبقية التشكيلات العسكرية
التابعة لفصائل المقاومة إلى الثأر لدماء الشهداء وشن هجمات بطولية ضد كل الأهداف
الصهيونية أيًا كان نوعها.
كما أعلنت حركة
الجهاد الإسلامي عن عزمها تنفيذ عمليات ضد الأهداف «الإسرائيلية»، وهتف متظاهرون
خلال المواجهات لكتائب عز الدين القسام وطالبوها بالثأر لدماء الشهداء.
ويرى كثير من
المراقبين أن الظروف والأجواء باتت مهيأة أكثر من أي وقت مضى على الصعيدين
الفلسطيني والعربي لتقبل أعمال المقاومة في ظل تعثر العملية السلمية، والتشدد
«الإسرائيلي» والمذابح التي ارتكبتها قوات الاحتلال ضد أبناء الشعب الفلسطيني
الذين خرجوا للتظاهر ضد جريمة فتح النفق تحت الأقصى، وترى أوساط سياسية أن بعض
الأطراف العربية ربما كانت ترغب بتصاعد أعمال المقاومة من أجل تشكيل ضغط على حكومة
نتنياهو التي تتخذ مواقف تفاوضية متعنتة.
هل هي مقدمات انتفاضة؟
منذ اندلاع
المواجهات الجماهيرية الواسعة في الأراضي الفلسطينية بعد الإعلان عن فتح النفق عاد
مصطلح الانتفاضة ليستخدم على نطاق واسع في وسائل الإعلام المختلفة وحتى في الأوساط
السياسية «الإسرائيلية» الرسمية، التي نظرت بقلق بالغ إلى المواجهات التي عمت
الأراضي المحتلة، وكانت أعنف كثيراً مما شهدته الساحة الفلسطينية في ذروة مواجهات
الانتفاضة، سواء من حيث شمولية المواجهات أو من حيث حجم الخسائر، ولاشك أن استخدام
السلاح في المواجهات من قبل الجانب الفلسطيني كان مظهرًا مختلفًا عما كان عليه
الحال خلال الانتفاضة السابقة التي أجهضتها اتفاقات أوسلو، والتي أكدت الأحداث
الأخيرة أنها لم تحل دون سقوط المزيد من الشهداء والجرحى في صفوف الشعب الفلسطيني،
ولم تحقق له الحماية من استمرار العدوان «الإسرائيلي» وقد عبرت الأوساط
«الإسرائيلية» عن خشيتها من أن أي انتفاضة فلسطينية جديدة في المستقبل في حال فشل
العملية السلمية ووصولها إلى طريق مسدود ستكون أكثر ضراوة وعنفًا، وأنها لن تقتصر
على الحجارة كما كان عليه الحال سابقًا، في ظل وجود أكثر من 30 ألف قطعة سلاح مع
عناصر الشرطة الفلسطينية، الذين تخشى تلك الأوساط من أن تأتي لحظة يفقد فيها عرفات
السيطرة عليهم في حال استمرار الإخفاقات المتوالية.
ومع أن ما شهدته
الأراضي الفلسطينية خلال الأيام الماضية كان أكثر من ثورة وانتفاضة بطولية أعلن
الشعب الفلسطيني خلالها تمسكه بأرضه ومقدساته واستعداده الدائم لتقديم المزيد من
التضحيات، إلا أن استمرارية هذه الانتفاضة لفترة كانت موضع شك منذ البداية، لأن
السلطة الفلسطينية التي لا تملك خيارًا بديلًا عن استمرار المراهنة على عملية
التسوية رغم جميع المعوقات تعتبر استمرار مثل هذه الانتفاضة تهديداً لوجودها
ولنجاح مشروعها السياسي.
الاعتداء
«الإسرائيلي» الجديد ضد المسجد الأقصى، والذي بدأ قبل أكثر من 10 سنوات يثير
الكثير من المخاوف المشروعة على المقدسات الإسلامية التي تواصل سلطات الاحتلال
استهدافها وتهديدها بهدف تهويد الأرض الفلسطينية وبخاصة مدينة القدس التي تتعرض
لأشرس حملة لطمس معالمها الإسلامية، وما لم تواجه بموقف عربي وإسلامي قوي وفاعل
فإن «إسرائيل» ستمضي في تنفيذ مؤامراتها ضد الشعب الفلسطيني وضد المقدسات
الإسلامية، فهل ستصر السلطة الفلسطينية والأطراف العربية على مطلبها بإغلاق النفق
الذي يهدد أساسات المسجد الأقصى أم سيتم تجاوز الأزمة بتطييب الخواطر مع إبقاء
النفق على حاله كما نتوقع(1)؟!
_____________________
(1) نشر بالعدد
(1220)، 25 جمادى الأولى 1417هـ/ 8 أكتوبر 1996م، ص38.