أسرار لا توزن حتى بالذهب

عثمان الثويني

27 يوليو 2025

127

حين نفكر في المسافات التي تتسع بين الآباء وأبنائهم، لا بد أن نُقر بأن الفهم العميق لا يُولد في صُدَف اللقاءات العابرة، بل هو نتاج بصيرة وحكمة وتواضع، ونزول الآباء من علياء التجربة إلى أرضية المشاعر الصادقة والتقبل غير المشروط.

إن أعظم أسرار الفهم ليست في فنون التربية النظرية ولا في أساليب التواصل الحديثة فحسب، بل في تلك اللحظات التي ينصت فيها الأب لقلب ابنه لا لكلماته، ويشعر فيها بهمّه قبل أن يسأله عنه.

في قلب هذا السر، يكمن مفتاح من مفاتيح النبوة، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فالفهم ليس علماً يُلقَّن، وإنما خُلُقٌ يُعاش، وتواضع يُمارَس، وحنان يُمنَح.

حين يتجرد الأب من دور الرقيب الصارم ويتقمص دور الرفيق الحكيم، تبدأ رحلة الفهم الحقيقي، فالابن لا يبوح لمن يحاكمه، ولكنه يسكن ويسترسل لمن يشعره بالأمان، ويأويه بحضن لا يضيق بأسئلته وارتباكاته، ولا يثور عند كل زلّة، إن أول سر من أسرار الفهم أن يؤمن الأب أن ابنه ليس نسخة منه، ولا ينبغي له أن يكون كذلك، بل هو كائن مستقل، له طريقه ونزعته ومواهبه ومشكلاته التي لا تُحل بالمقارنة، بل بالاحتواء.

السر الثاني: أن يفهم الأب أن العاطفة تسبق التعليم، وأن القلب إذا اطمأن انفتح، وإذا خاف انغلق وادّعى، وربما نافق، وإن كانت الشريعة الإسلامية قد عظّمت بر الوالدين، فإنها كذلك وضعت على الوالدين أمانة الرعاية، لا بسلطان القوة، بل بميزان العدل، قال ابن القيم رحمه الله: «وكم ممن أفسد ولده وضيّعه وهو يزعم أنه يكرمه ويحنو عليه!»، فكم من أب ظن أنه يُربّي وهو في الحقيقة يُهشّم، وظن أنه يُوجّه وهو يَكبت.

أما السر الثالث: فهو في معرفة مراحل النمو النفسي والعقلي، ومعرفة حاجات كل مرحلة، فالطفل الذي يسأل كثيراً لا يتحدى سلطة أبيه، بل يبحث عن حدود الكون وحدود ذاته، والمراهق الذي يتمرد ليس يرفض شخص أبيه، بل يختبر مدى وجوده وهويته، والفتاة التي تنعزل ليست تهجر والدها، بل تحاول أن تسمع صوتها الداخلي وسط صخب العالم الخارجي، ومن لا يفهم هذه اللغة الصامتة، يفسرها جفاءً وعقوقًا، بينما هي في حقيقتها استغاثة تحتاج إلى من يُترجمها حباً وصبراً ومجالسةً متكررة.

السر الرابع: أن يدرك الأب أن الفهم لا يعني الرضوخ لكل طلب، بل في القدرة على الإصغاء الحقيقي، وتقدير الأسباب، والنقاش الناضج الذي يُعلِّم كيف تختلف دون أن تنفصل، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في هذا، حين جاءه شابٌ يطلب الإذن بالزنى! لم يزجره، ولم يطرده، بل حاوره وسأله بلطف، حتى قال الشاب في آخر الحديث: فما كان أبغض إليّ منه!

الفهم أيضاً لا يكون دون دعاء، كم من أب طرق كل أبواب التربية، وغفل عن باب السماء، فالمحبة رزق، والقبول رزق، والحكمة رزق، والله يقول: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: 269)، فاللهم ارزق آباءنا وأمهاتنا الحكمة واللين، وافتح بصائرهم لفهم من جعلتهم أمانة في أعناقهم.

ثم إن من أعظم أسرار الفهم أن يكون الأب نفسه مفهوماً، صادقاً في التعبير عن مشاعره، لا يخجل من قوله: «أنا آسف»، ولا يستكبر عن قوله: «أنا أحبك»، فالقسوة لا تصنع رجالاً، بل جدرانًا، والبرود لا يصنع هيبة، بل فجوة، والاقتراب وحده هو ما يبني الجسور بين جيلين شتتهما مشاغل الحياة، وأطالت بينهما المسافات.

وأخيرًا، فإن الأمة التي تريد أن تبني أجيالاً قوية لا تبدأ بالمناهج، بل بالأحضان، لا تبني مدارس، دون أن تبني أولاً جسور الفهم في البيوت، ومن يفهم ابنه، فهو لم يفهم طفلاً فقط، بل فهم مستقبل أمة، وشارك في تشكيل إنسان قادر على حمل الرسالة، والمضي نحو التغيير، فالأسرة هي النواة، والفهم هو البذرة، وما بينهما تنمو الحضارات أو تذبل، ويُصنع القادة أو يُستنسخ العبيد.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة