في ذكرى «النكبة» ومعركة الوجود

أسس صدور «وعد بلفور» عام 1917م لـ«النكبة» منذ إعلانه الذي كان يقضي
بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، ثم لانتداب بريطانيا على فلسطين، ومكن اليهود
من الاستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي، وشجع المؤسسات الصهيونية للعمل المنظم
للسيطرة على مناحي الحياة ومفاصلها.
دخلت بريطانيا لفلسطين مؤكدة التزامها بـ«وعد بلفور»، والعمل على تنفيذه
وتشجيع اليهود بالهجرة إلى فلسطين ومدهم بالسلاح بأنواعه، وتدريبهم على استعماله،
في الوقت ذاته تمارس كافة أشكال القمع والبطش والتنكيل بحق الفلسطينيين والتضييق
عليهم وملاحقة ومطاردة الناشطين المدافعين عن بلادهم وإعدامهم.
«النكبة» مصطلح حديث يتحدث عن المأساة الإنسانية المتعلقة بتشريد مئات
الآلاف من الشعب الفلسطيني، وهدم معالم مجتمعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية
عام 1948م بعدما اقترفت العصابات الصهيونية ما يزيد على 70 مجزرة أدت لاستشهاد
عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وطرد وتهجير السكان من بلادهم، ساهمت الدعاية
الصهيونية على فرارهم خوفاً على سلامة أعراضهم وأبنائهم ونسائهم، ومنع عودتهم
وسبباً في تشتتهم في بقاع الأرض.
من المؤكد أن الانتداب البريطاني هو الوجه الأول الخفي غير المباشر لدولة
الاحتلال، ففي منتصف ليلة 14 مايو 1948م أعلنت الحكومة البريطانية إنهاء وجودها في
فلسطين، وقبيل إنهاء الانتداب بساعات أعلن المجلس اليهودي في «تل أبيب» قيام دولة
يهودية في فلسطين، ودون الإعلان عن حدود هذه الدولة.
الواضح أن الإستراتيجية الصهيونية لطرد الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم لم تأتِ
في لحظة ما، إنما ضمن تخطيط مسبق وتنسيق مدروس بأدوات ساعدت حكومة بريطانيا عليها،
وأثبتت الوقائع لاحقاً أن هذا الكيان إحلالي استعماري، وأن ما قام به من تهجير
قسري وهدم بلدات ومدن بكاملها وتغيير أسمائها ومعالمها، يؤكد طبيعة عقليته ونهجه
ومنهجه.
تأتي ذكرى «النكبة» الـ77 في ظل حرب إبادة جماعية ومحاولة تهجير قسري
لأهالي غزة ومخيمات الضفة الغربية وقوننة يهودية الدولة في الكنيست؛ ما يؤكد أن
هذا العدو لا يقبل أحداً آخر على أرض ليست له بالأصل، إنما هو استعمار إحلالي
إجرامي ويعتبر وجوده هو الوجود، وأهل الأرض والحق هم العدم والوهم واللا موجود، وإن
اعترف ببعض وجودهم فينبغي أن يكون لصالحه وفي سياق مشروعه ولخدمته وتحت تعليماته
وسيطرته كما هي «أوسلو» كارثة الكوارث ومصيبة المصائب.
لم يستسلم الفلسطيني لواقع طارئ، فأبدى مقاومة بطولية من لحظه الانتداب
برغم بطش الإنجليز والعصابات اليهودية، واستمر كفاحه ونضاله بعد «النكبة»، ولا
يزال متمسكاً بحق عودته وتحريرها وتحت إدارته وسيطرته وقراره، ولم يتحول إلى لاجئ
كسول يعتمد على المساعدات والإعانات، إنما ساهم ولا يزال يساهم في نهضة وإعمار أي
بلد يقيم فيها وارتحل إليها، وبنى شخصيته النضالية ويتوارثها الأبناء للعودة.
عمَد الفلسطينيون الذين هُجِّروا من ديارهم لأخذ مفاتيح منازلهم لقناعتهم أنهم
عائدون إليها ذات يوم، ولا يزالون يتوارثون تلك المفاتيح جيلاً بعد جيل، لتذكرهم
بديارهم المغتصبة وإصرارهم بالعودة إليها، فضلاً لما تمثله من رموز باقية للعودة
وتأكيداً لها.
إن الصمود الأسطوري لغزة؛ أرضاً وشعباً ومقاومة، يؤكد المؤكد أن فلسطين من
نهرها إلى بحرها لا تقبل القسمة، وأن الطارئ عليه أن يرجع من حيث أتى، والعودة حق
لا تنازل عنه.