الإيجابية في العصر الرقمي

تشير الإحصاءات لعام 2025م أن عدد مستخدمي الرقمية حول العالم يزيد على 5.6 مليارات مستخدم؛ أي ما يعادل 68.7% من البشر الموجودين على كوكب الأرض، وأن أكثر من 95% من مستخدمي الإنترنت يحصلون على الخدمة من خلال الهواتف المحمولة، أما عدد الهويات على مواقع التواصل الاجتماعي فحوالي 5.31 مليارات، وأنه يوجد حالياً ما يقرب من 7.4 مليارات هاتف ذكي.

الرقمية والدين

تؤثر التكنولوجية الرقمية على الإنسان تأثيراً كبيراً ومباشراً وممتداً، فقد غيّرت نومه ويقظته وعلاقاته وتفاعلاته وأحلامه وتواصله، وامتدت إلى دقائق الأمور الإنسانية.

والسؤال: هل للأديان نصيب من تلك التأثيرات؟ وهل الأديان قادرة على اقتناص اللحظة الرقمية وتحويلها من عقبة إلهاء للإنسان، إلى فرصة للوصول لمئات الآلاف، بل ملايين البشر في وقت واحد، متخطية حاجز المكان والجغرافيا القيود؟

تشير الإحصاءات إلى أن الرقمية أصبحت الوسيط الأبرز للوصول إلى المحتوى الديني في كثير من المجتمعات، ففي تقرير لمركز «بيو» الأمريكي لأبحاث الدين، أشار إلى أن أكثر من 75% من الأمريكيين يستخدمون المنصات الرقمية للوصول إلى المحتوى الديني، وأن 70% من القادة الدينيين الأمريكيين يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي للتواصل مع مجتمعاتهم، وأن ربع الشباب الأمريكي يشاهد الخدمات الدينية من الرقمية، وأن 20% من البالغين يستخدمون تطبيقات ومواقع الويب لقراءة الكتاب المقدس.

ونجد مثلاً أن موقع «YouVersion» الذي تم إطلاقه عام 2008م، تم تحميل تطبيقه أكثر من 500 مليون مرة، والموقع يوفر الكتاب المقدس بحوالي 2000 لغة؛ ما يجعله متاحاً لأغلب لغات العالم، وعلى المستوى الإسلامي، نجد تطبيق «مسلم بــرو» الذي يوفر مواقيت الصلاة، وتلاوات للقرآن، وهو التطبيق الإسلامي الأكثر استخداماً في العالم، حيث بلغت عمليات تنزيله أكثر من 170 مليوناً، منذ انطلاقه عام 2010م، ولديه 25 مليون مستخدم نشط شهرياً.


الهوية في العصر الرقمي |  Mugtama
الهوية في العصر الرقمي | Mugtama
لم تعد السلطة ولا المجتمع ولا سطوة التاريخ والأيدو...
www.mugtama.com
×


بعيداً عن الرهبة

هذه الفرص الكبيرة التي تتيحها الرقمية للأديان، تتطلب اقتناصها وليس التعامل معها برهبة وانغلاق، فالرهبة في هذا العالم المحفوف بالأخطار والفرص، ليس أمراً متاحاً، ولن يستطيع المسلمون أن يعيشوا منعزلين عن الرقمية، بل إن الرقمية ستفرض تحدياتها وشروطها وإذعانها، فالإيجابية تعني أن تحمل هويتك وغايتك معك وتواجه التحديات وتقتنص منها ما تستطيع، أما السلبية فتعني أنت تقبع انتظاراً لما سيمليه الآخرون عليك.

يرى البعض في الإيجابية الرقمية أنها تكمن في منع الإساءة وترشيد الاستخدام ومحاصرة الأخطار، ويذهب اتجاه آخر أن الإيجابية الرقمية هي بث معايير للالتزام والفضائل، قادرة على مخاطبة الضمائر وتنمية الرقابة الذاتية قبل الرقابة الآلية أو المساءلات القانونية.

وفي العالم الافتراضي اهتمام بالفرد، فالتكنولوجيا الرقمية تكاد أن تكون شخصية، في ظل تنامي الخصوصية، التي تعد إحدى ركائز الرقمية الأساسية، ومن ثم فإن القدرة على الوصول إلى هذا الفرد والتسلل إلى عالمه الخاص، والانتقال من هذا العالم الخاص إلى مخاطبة الضمير الوعي وتغيير السلوك إلى الأفضل وتنمية الفضائل هو نجاح كبير، ولا يأتي ذلك إلا من خلال إحياء الحديث عن الفضيلة في المجال التكنولوجي.

استرعت تلك القضية انتباه البعض، مثل الفيلسوفة الأمريكية شانون فالور، في كتابها «التكنولوجيا والفضائل»، فأشارت إلى أن الرقمية تعيد تشكيل عاداتنا وممارستنا وواقعنا بطرق متسارعة وشديدة التعقيد، وهذا يُضعف قدرتنا على التنبؤ، وهو أمر يهدد ازدهار الإنسان، أما مفتاح التغلب على تلك الأخطار فيمكن أن يأتي من أخلاقيات الفضيلة وما طرحه الفلاسفة الكلاسيكيون، وقالت فالور: إذا أردنا أن يكون لدينا أي أمل حقيقي في ضمان مستقبل جدير بالاهتمام، فسنحتاج إلى أكثر من مجرد تقنيات أفضل، سنحتاج أيضًا إلى بشر أفضل.

وحددت فالور عدة أخلاق ضرورية لهذه الغاية، منها: الصدق، وضبط النفس، والتواضع، والعدالة، والشجاعة، والتعاطف، والرعاية، والكياسة، والمرونة، وحسن التدبير، وسعة الأفق، والحكمة.

ولا شك أننا نحتاج إلى بشر أفضل قبل أن يكون لدينا تكنولوجيا أفضل، أو على الأقل أن تتوازي التكنولوجيا الأفضل مع البشر الأفضل، وهذا يفرض أن تكون الإيجابية حاضرة وفاعلة في العالم الافتراضي، فتركز أخلاقيات الفضائل الرقمية على الأخلاق الفعالة، فالإيجابية لا تكفي بأن تمنع، بل لا بد أن تمارس الدعوة إلى الفضيلة.


الشعائر في عصر العولمة |  Mugtama
الشعائر في عصر العولمة | Mugtama
منذ سنوات تحدث كايلاش ساتيارثي، الحقوقي الهندي الح...
www.mugtama.com
×


والحقيقة أن الرقمية قد تكون محفزاً للإيجابية والتحول الاجتماعي نحو الأفضل من خلال مشاركة الأفكار الفاعلة الملهمة والجذابة، والمدعمة للفضائل، ومناصرة الحقوق ومناصرة حقوق المستضعفين وإتاحة قدر من التوعية في المجالات المفيدة.

وتحقيق الإيجابية في العالم الرقمي لا يأتي من تحقيق التواصل فقط، ولكن يأتي من خلال إلهام الآخرين بالفعل الإيجابي وحشدهم لما هو نافع ومفيد، وتسخير تلك القوى في تراكم يقود إلى تغيير هادف، وهنا تتحول الرقمية إلى قوة خير ونفع، أما الوجه الآخر للإيجابية فهو أنها تعبير عن الصحة والرفاهية النفسية، ولعل هذا الأمر هو ما نبهت عليه منظمة الصحة العالمية إبان أزمة وباء كورونا، إلى ضرورة إيجاد فرص لتضخيم القصص الإيجابية والمليئة بالأمل لحماية الصحة النفسية.

ومن الضروري إدراك طبيعة الوسيط الرقمي وطبيعة مستخدميه، يشير البعض إلى أن «مخروط الخبرة» الذي وضعه إدجار ديل عام 1969م، وذكر فيه أن الناس يتذكرون 10% مما يقرؤونه، و20% مما يسمعونه، و30% مما يرونه، و50% مما يسمعونه ويرونه، و70% مما يقولون ويكتبون، و90% مما يفعلونه، يعطي هذا مؤشراً لأفضل الطرق التي يمكن أن تستخدمها الأديان، فالإيجابية مدخل لتعزيز المعرفة والفضيلة.

___________________

1- اسم الكتاب: Technology and the Virtues: A Philosophical Guide to a Future Worth Wanting.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة