ظاهرة التشاكس عند المسلمين

تأمل في المَثَل الذي ضربه الله تعالى
لنا: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا
رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ) (الزمر: 29)،
كلا العَبْدين خادم لسيد، لكنّ الأول تعدد عليه أسياده فشقَّت عليه خدمتهم
لتشاكسهم فيه، أي تنازعهم وتناحرهم وتعارضهم، في الطلبات والنواهي ومعايير الرضا
والسخط.. إلخ، أما الثاني فله سيّد واحد، مهما عدّد عليه المطلوبات والقوانين،
يظلّ في معاملتهما نوع ثبات وصفاء، بسبب واحدية جهة المساءلة والسيادة.
وكذلك يحصل أن يقع المسلم في التشاكس القلبي، فتعدد مرجعياته وتضارب مصادر استمداده للمبادئ والأصول التي يتحرك وفاقًا
لها في حياته، بين المستوردات الثقافيّة والأعراف المجتمعية وممارسات التديّن
المُتوارَثة على عِلاتها، فإذا أضفنا لذلك التشاكس بين المرجعيات بُعد عهدنا
بمفهوم التوحيد ومقتضياته، لفساد بِنيَتِنا العلمية في تعميق فهمنا له، وتآكل
بنيتنا التربوية في تجديد شعورنا به، ومراجعة مدى انضباطنا معه، وركوننا فوق كل
هذا للغفلة وعدم الاكتراث، نفهم كيف صار الذهول عن الله تعالى هو الأصل في حياة
المسلم رغم إسلامه، وذكره تعالى عارضًا طارئًا ووجيزًا في حياة المسلم على إسلامه!
مظاهر التشاكس
ومن مظاهر التشاكس القلبي التي يكثر
الوقوع فيها: تعدد قِبْلات القلب التي نتوجه لها في حياتنا، وتعدد الآلهة الصغيرة
التي نصرف لها من أشكال العبادة الوجدانيّة خاصة ما يجب أن يقتصر على الله تعالى
وحده، وذلك بتحويل مختلف أدوات هذه الحياة الدنيا من وسائل عون على أمر الله
وابتغاء وجهه، لغايات مقصودة بذاتها، مطلوبة لمجرد طلبها، فيستحوذ على قلوبنا
التلهف لها، والاشتغال بتحصيلها ثم حفظها ثم تنميتها، وهكذا، فتُلهِينا عن كثير من
حق الله تعالى، بل ونتوقع مما نؤديه من عبادات باهتة أن تكون معبرنا ووسيلتنا إلى
مطامحنا وغاياتنا، ثم نسخط ونتبرّم من عدم الإنصاف إذا لم تتحقق المعادلة، أو خالف
حسن ظننا بالله شروط أطماعنا في مُلكِه، فنزهد في العبادات التي لم تؤتِ ثمارها
المنتظرة! تعالى الله عن هذه المعاملة الجاحدة عُلوًا كبيرًا.
وخذ أمثلة على تلك القِبلات: شهوة العلم
والتفوق، والوجاهة الاجتماعية والوظيفية، والأهل والولد، وادخار الأموال وتكويمها،
هذه من أشهر القِبلات التي يُطَوِّق تمنيها قلوبَنا تطويقًا من الصِّغر، إذ ننشأ
على أنّ غاية الحياة هي بلوغ تلك المحطات الناجحة، وحيازة تلك المعالم الألمعية
جميعًا، وعلى هيئة معينة، فنستمد قيمة وجودنا ومعنى حياتنا من منسوب تحصيلها،
ويكون الابتئاس من ثَم عند قلة المال أو تأخر الزواج أو عدم الإنجاب أو انخفاض صور
الوجاهة مقارنة بالأقران.
ويَصِف الله تعالى الأموال والأولاد
بأنهم «فتنة»؛ أي لا يَخلُوَان من شغل القلب بهما، وليس في ذات الاشتغال إشكال لو
أنه لا ينقلب سلطانًا مهيمنًا، لدرجة أن يَحمِل صاحبه على مخالفة لأمر الله أو
استهانة فيه أو تضييع له، وفي الحديث: «الولد مَبخَلة مَجْبَنَة» (رواه أحمد)؛ أي
أنّ الأولاد سبب لجبن الآباء، فيتقاعسون عن تكاليف شرعية خوفًا على مستقبل العيال
أو لانشغالهم بتحصيل المال لهم، وهم مبخلة لأنهم سبب لبخل الوالدين بالمال رغبة في
ادّخاره لهم.
فتأمل كيف أنه رغم ازدياد طموحات الزواج
والإنجاب، واعتبارهما من المحطات اللازمة في الحياة، وانتظارهما على أحرَّ من
الجمر، تجد مع كل ذلك نسبة انهيار البيوت وفساد التربية في ازدياد بالتوازي، ذلك
أنّ تلك الطموحات لم تُجعَل ولم تُرَد غايات مَحضَة، فلما اتُّخِذت بذاتها الغاية،
لم يَقُم التعامل فيها بأمر الله تعالى، بل تَلهَّى أصحابها بها عن أمر الله
تعالى! وما لا يُعامَل فيه بأمر الله تعالى ممن آمن بالله تعالى، لا خير فيه ولا
بركة من الله تعالى، وفي الحديث: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ
بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَقْطَعُ»، وفي رواية «أَبْتَر»؛ أي
مقطوع عن الخير والبركة والتوفيق من الله تعالى، إذ استغنى صاحبه عن ذكر الله
تعالى والبدء باسمه.
العلاج النبوي
ثم تأمل كيف أنّ رسول الله صلى الله عليه
وسلم ظلّ بمكة قبل الهجرة، يعبد الله تعالى ويطوف بالبيت العتيق على ما أحاطه من
أصنام من كل الجهات، دون أن يُؤمَر أو يأمُر بِهَدّها، لأن جوهر الرسالة وقتها كان
إزالة أصولها القلبية واقتلاع جذورها الوجدانية من نفوس من ألَّهوها أولًا،
بالإطاحة بأوثان الشعور قبل الإطاحة بأوثان الصخور، حتى إذا تمَّ ذلك، صارت إزالة
الفروع نتيجة تلقائية لما سَلَف من إزالة للجذور ليس إلاّ، وحقيقة المعركة لم تكن
مع مجموعة أحجار مرصوصة، بل مع ما كانت ترمز إليه تلك الأحجار من أهواء منصوبة،
تتشاكس في قلوب العباد فتصرفهم عن رب العباد: من حب الجاه والسلطان والملك، وحب
للمال والتسلط على الفقـــراء، وحب الملذات والشهوات، وحب المفاخر والمآثر.. إلخ.
تلك الأهواء كانت هي الآلهة المنصوبة في
قلوبهم، تُعبد من دون الله، وما الأحجـــــار المرصوصة إلا تجسيدها في عالم المادة،
ولذلك لم يَقبَل المصطفى عليه الصلاة والسلام من المشركين أيّة مهادنة أو «حل وسط»
دون عقيدة التوحيد الخالصة.
أصنام اليوم
وإذا لم يكن لدى المؤمنين اليوم أصنام
أحجار منصوبة الصفوف، فماذا عن أصنام الأهواء المنصوبة في النفوس؟ إننا –مثلًا-
نُقِرّ عقلًا ولسانًا أن الله تعالى وحده الرزاق، ومع ذلك يسكن قلوبنا الهلع على
تحصيل الرزق، ويستحوذ علينا الجزع من فواته، ونتمرغ في الذل على أبواب الوظائف
والمُوَظِّفين خشية انقطاع لقمة العَيْش، بما يعكّر حقيقة إيماننا بالله الرزاق،
ويزعزع استمدادنا للثبات من واحديّة مالك خزائن السمــــــاوات والأرض ومن فيهن، فإلى
أي مدى نعتقد اعتقادًا جازمًا حقيقيًّا أنه (ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ
رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) (هود: 6)؟ ما
حقيقة يقيننا أن الله وحده الرزاق؟ وما مدى استشعارنا لمعاني الولاية والحفظ من
ربنا مالكنـا؟! وما أصدق قول المفكّر مصطفى محمود: «وأنت وحدك الرزاق، وإن تعددت
الأيدي التي تعطي»!
لقد استغرقت المرحلة المكية للدعوة 13
سنة من أصل 23 سنة؛ 13 عامًا من غرس لا إله إلا الله في القلوب، فلولا أنها شهادة
عظيمة الخطر والقدر والمقتضى ما استغرقت كل هذا، وما سبقت نزول تكاليف الجوارح
والسلوك بكل هذه المدة، لكننا نُقبل على ضبط الجوارح والسلوك الظاهري منفصمًا عما
سواه، وحقيقة الأمر أنه تبع لانضباط القلب، ورشاد توجهه للقبلة الصحيحة.