شاهد عيان يهودي على الصهيونية (4)

هنا يستطرد الكاتب ليعودَ إلى بعض
ملاحظاته التي وقعَت له في زيارته لسوريا ولبنان. وبعد ذلك يمضي في رسالتَين
متتابعتين يشرح ويُحلل ويصف كلَّ ما رآه في معسكرات اللاجئين، بروحٍ ساخطة على
الصهيونية التي أحدثَت هذه الفظائعَ على رُقعة كان ينبغي أن تكون آمنةً مطمئنة.
ويدخل القدس المحتلة بإسرائيل، فكان أول
ما أثار حيرته ودهشته وغيظه أنَّ ذلك الرجل أفرام هارمان قُنصل إسرائيل العامَّ في
نيويورك، كان قد أذن له بدخول إسرائيل، لكنَّه فيما يبدو قد سجَّل الإذن على صورةٍ
تُثير شكوك الواقفين على الحدود؛ يبدأ الكاتبُ رسالته قائلًا: «هذا ختامُ اليوم
الأول — أو على الأصح نصف اليوم — لنا داخلَ إسرائيل؛ لقد عبَرْنا بوابة «مندلبوم»
في الساعة الثانية بعد الظهر، وأنَّ هذه «البوابة» في حدِّ ذاتها لظاهرةٍ تُثير
الاهتمام، وترمز للموقف كلِّه هنا؛ فبوابة مندلبوم هي «نقطة عبور» تمتدُّ بضع مئات
من الياردات على شارعٍ كان يومًا ما شارعًا عامًّا عاديًّا في القدس قبل حرب
1948م، وهو شارع يصل المدينةَ القديمة بالمدينة الجديدة، وأمَّا اليوم، فعند مكانٍ
معين منه، يقوم منزلٌ كان يسكنه فيما مضى رجلٌ بهذا الاسم «مندلبوم»، وترى هنالك
كوخًا صغيرًا لشرطة الأردن. أمَّا المنزل فقد ضُرب أثناء الحرب وهجَره ساكنوه،
فإذا ما غادرتَ كوخ الشرطة الأردنية دخلتَ في جزءٍ يمتد بضع مئات من الياردات، هو
جزءٌ حرام لا يتبع أحدًا بعينه، لكنَّك لا تسير عبر هذا الجزء إلَّا إذا كنتَ من
قبلُ قد أخطرتَ الحُراس على جانبَيه (الأردني والإسرائيلي) حتى إذا ما قطعتَه
ألفَيتَ كوخًا صغيرًا آخر، حيث الشرطةُ الإسرائيلية تُراجع أوراقك، داخلًا كنت أو
خارجًا».
وبعد هذه المقدمة القصيرة، يذكر لنا
الكاتبُ أنَّه لولا شعورُه بواجبه نحو نفسِه، ولولا ما تذرَّع به من عناد، لما
اجتاز الحدودَ الإسرائيلية أبدًا. ثم يقصُّ قصةَ ذلك الشعور كيف نشأ عنده، فيقول
إنَّه كان قد قضى معظمَ الصباح محاولًا الحصولَ على استمارةٍ معيَّنة تُسجَّل
عليها تأشيرة الدخول في إسرائيل؛ لأنَّه لو سُجلت له هذه التأشيرة في جواز سفره،
لما استطاع بعد ذلك أن يدخل البلاد العربية بذلك الجواز؛ وهو يشهد بأنَّ الموظفين
في الجانب الأردنيِّ كانوا أكثرَ من مجرد معاونين له، فقد تطوَّع أحدُهم بالمجيء
من داره لا لشيءٍ إلَّا ليضع له تأشيرةَ الخروج من حدود الأردن، لكنَّه ما إنْ بلغ
حدود إسرائيل حتى بدأت المتاعب؛ فبرغم أنَّ الأمر عاديٌّ ومألوف، فقد اضطُرَّ إلى
أن يشرح للحراس على الحدود لماذا يُريد أن توضع له تأشيرةُ الدخول على الاستمارة
لا في جواز السفر؛ فأعجبُ العجب أنَّ «ضابط الهجرة قد غافلَني لحظةً أدرتُ فيها
بصري إلى السيارة التي كانت زوجتي فيها مع القنصل الأمريكي، ووضع التأشيرة على
جواز السفر، لا في الاستمارة المنفصلة التي قدَّمتُها له»، وبرغم أنَّ الرجل أخذ
يعتذر عن «الخطأ»، فإنَّ الزائر يقول في رسالته: «لكنَّني على يقينٍ من أنَّه خطأٌ
متعمَّد».
يدخل الزائر مع زوجته بسيارة القنصل
الأمريكي في إسرائيل، فإذا بمندوبٍ سياحي يلاقيه، ليصحبَه في سيارةٍ أعدَّها له
إلى فندق الملك داود، وهنا اقترح القنصلُ أن يأخذه في سيارته هو؛ حتى لا ينقلوا
الحقائبَ من سيارةٍ إلى أخرى بغير داعٍ، فما هو إلَّا أن أبدى مندوبُ السياحة
غيظَه الشديد، قائلًا إنَّ الزائر على كلِّ حال عليه أن يدفع أجرةَ السيارة التي
أُعِدَّت له، سواءٌ استخدمها أو لم يستخدمها. وهنا يُعلق الكاتب بقوله إنَّه
عندئذٍ أحسَّ بأنَّ المسألة يستحيل أن تكون مجردَ حسرةٍ على بضعة جنيهات
إسرائيلية، خصوصًا أنَّه لم يقل إنَّه ممتنع عن الدفع، بل «لا بُدَّ أن يكون عند
المندوب رغبةٌ في أن ينفرد بنا — دون القنصل — حسَب تعليماتٍ وُجهتْ إليه، وقد
أثبتَت الحوادث بعدئذٍ صدق ما أحسستُه».
وأخذ الكاتب يقارن بين ما تمتع به من
حرية اختيار لما يراه وما لا يراه حين كان في البلاد العربية جميعًا، وما يجدُه
الآن في إسرائيل من شعور بالتوجيه الذي يَرسم له ما يُراد له فعلُه، سواءٌ صادف
عنده قَبولًا أو لم يُصادف؛ «إنني لَأشعر بأسفٍ تجاه هؤلاء الإسرائيليين، إنَّهم
في الحقيقة لا يفهموننا نحن رجالَ الجمعية اليهودية، ولا يفهمون العرب».
لم يكَد يستقرُّ الزائر في فندقه عشرين
دقيقةً حتى جاءه رجلٌ من وزارة الخارجية، ثم ما هو إلَّا أن طَفِق يُلقنه بما
أرادوه له من دعاية: كيف أنَّ إسرائيل «يُحاصرها» العرب، وكيف يُهدد «المتسللون»
طُمأنينتهم وأمْنَهم، وكيف أنَّ العرب لا يريدون معهم سلامًا، بل يُدبرون أخذًا
بالثأر! ولقد صارحَه الكاتب — فيما يروي — بأنَّه إذا كان العرب «يتسللون» لأعمالٍ
جزئية محدودة، فإسرائيل «تُقاتل» قتالًا على نطاقٍ واسع، وإنَّه لا يرى أنَّ مِثل
هذا الفعل من جانب إسرائيل — وهو متكرر — يُمكن أن يكون طريقًا موصلًا إلى إقناع
العرب بحُسن الجوار.
وأضاف الكاتب إلى محدثه الإسرائيلي
بأنَّه لم يحضر ليسمع محاضرةً عن التسلل العربي، بل حضر ليرى على الطبيعة الجانبَ
الصِّهيوني من إسرائيل (يُلاحَظ أنَّ كاتب هذه الرسائل يظن أنْ لو نُزعت إسرائيل
من صِلاتها بالصهيونية العالمية، بحيث أصبحَت دولةً مقتصرة على حدودها، وعلى
سُكَّانها؛ فربما أمكنَ تثبيتُ السلام بينها وبين العرب).
مضايقات كثيرة
يذكر الكاتب مضايقاتٍ كثيرةً لاقاها من
دليله الإسرائيلي، فإذا طلب منه أن يُدبر له لقاءً مع هذا الشخص أو ذاك، راوغَه
ليُقابل غيرَ من يريد، وإذا رافقَه الدليلُ في أماكن سياحية، أخذ يُضيف من
الملاحظات الصِّبيانية ما ضاق له صدرُ الزائر، الذي لم يسَعْه إلَّا أن يكتب: «لقد
ظننتُ أنَّ اليهود هنا سيتمكَّنون من العيش «العادي» خالين من العُقَد التي
لاحقَتهم من هتلر ومن اضطهاد السامية؛ لكنَّني — بعد يوم ونصف — أشهد بأنَّني لم
أجد ما توقَّعتُه؛ فهُم إذا حدثوك، فإمَّا أن يُبرروا سياستهم العدوانية تجاه
العرب، بأنَّ «العرب يَكرهونهم»، وإمَّا أن يُبرروا لك ضرورةَ اعتمادهم على اليهود
الأمريكيين، ليُزوِّدوهم بالمال الذي يُخلِّصون به اليهود من هذا البلد أو من ذاك..
إنَّه لَواضحٌ غاية الوضوح أنَّ هؤلاء الناس ليسوا هم الشعبَ العادي الصحِّي
المتفتح الذي قيل لنا إنَّ الدولة «اليهودية» كفيلةٌ بأن تُنشئه؛ بل هم بالِغو
الحساسية لشتى المُرَكَّبات النفسية التي تعتملُ في حياتهم، وليس أقلُّ تلك
المركبات شأنًا شعورَهم بالذنب تجاه اللاجئين العرب، وإدراكَهم لضرورة اعتمادهم
على صدقات الأمريكيين».
يذهب الزائر مع دليله إلى جبل صِهْيَون،
الذي يُقال إنَّ داود قد دُفن فيه، ويصعد إلى القمة سلالمَ كثيرة، حتَّى إذا ما
بلغها لم يجد ما توقَّعه من عنايةٍ ونظافة، فيسأل دليلَه عن سبب ذلك، فيُجيبه
الدليل بأنَّ روَّاده على الأغلب هم من اليهود الذين وفدوا من بغداد، ثم يُضيف
إضافةً يسخر منها الكاتب، إذ يقول: «إنَّنا نحن (الغربيِّين) لم نعُد نقصد إلى هذا
المكان إلَّا نادرًا.» وهنا يُعلق الكاتب بقوله إنَّ ما أغاظه من هذه الملاحظة
وأمثالِها من الدليل، هو هذا التناقضُ المنطقي في أقوال الإسرائيليِّين؛ لأنَّهم
كلما نقَلوا يهودًا من وطنهم، وعَدُوهم بجنة إسرائيل، فإذا ظلَّ اليهود الوافدون
من هذا البلد أو ذاك على عاداتهم القديمة، فأين إذن الجنة التي وعَدتُموهم بها في
إسرائيل؟! فيمَ هذا التفاخر عند الإسرائيلي الوافدِ من الغرب، على زميله الوافدِ
من الشرق، ما دام الزعمُ الأساسي هو أنَّ إسرائيل ستضمُّ اليهود إخوة، وتُخلصهم من
اضطهادِ غير اليهود؟ ويُلاحظ الكاتبُ في رسائله بأنَّه كلما وقع في رحلاته على
جزءٍ نظيف، قال له الدليل إنَّ هذا من صنعهم هم — يقصد اليهود الغربيين — وكلما
وقع على جزءٍ قذر، قال له الدليل إنَّه مُستقَرٌّ لجماعةٍ من يهود الشرق؛ مثال ذلك
حين مرَّ بأحد «الكيبوتزات» — أي أماكن الحياة الجماعية — (ولاحِظ أنَّ الكيبوتزات
هي موضع الفخر عند الإسرائيليين) فهاله أن يرى ما رآه من كآبةٍ وقذارة، فالساحات
تنتثر في أرجائها القُمامةُ والصفائح الفارغة وبقايا السيارات القديمة المهجورة؛
ولمَّا دخل قاعةَ الطعام المشتركة، وجدها من القذارة بدرجةٍ لم يكن يتصوَّرُها قط؛
فعندئذٍ سارع الدليلُ بقوله: إنَّ هذا ليس هو الكيبوتز المثالي، وسأُريك غيره لترى
النظافةَ وجمال التنسيق، ومرَّ الزائر بقريةٍ قديمة يسكنها يهودٌ من اليمن، ولما
لحظ الدليلُ على وجه الزائر دهشةً مِن تأخر الحياة، أسرع بتعليقه على الموقف بأنَّ
أهل اليمن هكذا عاشوا في بلدهم، وهكذا يُحبون أن يعيشوا! وهنا يسأل الكاتبُ في
خطابه: هل يسَعُ الإنسانَ سوى أن يتساءل في تعجُّب: ففِيمَ إذن زعمتم أنَّكم
ستُخلصون هؤلاء الناسَ مما كانوا فيه من مرض وفقر، وطلبتم المعونةَ المالية
لتتمكَّنوا من عملية الخلاص هذه؟!
ثم يُضيف الكاتبُ من عنده أنَّه لا يشكُّ
في أنَّ الإسرائيليين حين وضَعوا هؤلاء اليمنيين في تلك القرية، وتركوهم بغير
عناية، فإنَّما فعلوا ذلك صُدورًا عن تعصبٍ عنصري من ناحية اللون؛ لأنَّ هؤلاء
اليهودَ الوافدين من اليمن — كما يقول الكاتب — يكادون يكونون سُودَ البشَرة، ولم
يُرِد الإسرائيليون «البيض» أن يمزجوهم مع سائر المجتمع؛ فماذا إذن بَقِيَ
للصِّهيونية من دعوى تدَّعيها بأنَّها هي البلسم الشافي الذي سيقلب أرضَ اليهود
جنة ونعيمًا، بالمعنى الماديِّ والمعنى النفسي على السواء؟
إنَّه كتابٌ صغير، فيه ستٌّ وعشرون
رسالة، بعَث بها مُدير المجلس اليهودي الأمريكي إلى صديقَين له من رجال ذلك
المجلس، تقرؤه فتجد بين سطوره نكهةً لم نألفها عند الأمريكيِّين خاصة، فيأخذك شيءٌ
من الأمل إلى الاعتقاد بأنَّ الإنسانية لن تَعدِمَ صوتَ الصدق يرتفع آنًا بعد آنٍ،
فتطوي الكتاب وأنت تُردِّد لنفسك عُنوانه الدالَّ: على من يعرف الحق أن يُعلنه.
اقرأ أيضاً:
شاهد عيان يهودي على الصهيونية (3)
شاهد عيان يهودي على الصهيونية (2)
شاهد عيان يهودي على الصهيونية
_____________________
المصدر: من كتاب «ثقافتنا في مواجهة العصر».