فقه النهي عن المنكر عند الإمام الغزالي

كتاب «إحياء علوم الدين» من الكتب التي حظيت بعناية العلماء، ولا جرم فهو
موسوعة معرفية وسلوكية وخلقية جامعة، وهو أشهر مصنفات الإمام الغزالي وأوفرها حظاً
من الدرس والبحث، فللكتاب عدة شروح ومختصرات وضعها علماء أفذاذ أمثال ابن الجوزي،
ومرتضى الزبيدي.
و«الإحياء» ينقسم إلى 4 أقسام أو أرباع، هي: العبادات، العادات، المهلكات،
المنجيات، وتحت كل منها قائمة موضوعات مرتبة ترتيباً دقيقاً، وكل موضوع -أو كتاب
كما يطلق عليه الغزالي- يشكل وحدة لها إطار تحليلي خاص مما يجوز دراسته بمعزل عن
بقية الموضوعات.
وعلى هذا نعرض فيما يلي لنظرية الإمام الغزالي في النهي عن المنكر كما
صاغها في الفصل التاسع من ربع العادات البالغ زهاء 70 صفحة، وهو مرتب ترتيباً
محكماً، ويختلف من بعض الوجوه عن الكتابات السابقة عليه كما سنبين لاحقاً.
استهل الغزالي معالجته بمقدمة نظرية وجيزة لم تزد عن فقرة تحدث فيها أهمية
الفريضة العظمى واندثارها في زمانه وغياب من يريد إحيائها، ثم قدم خطة بحثه
المؤلفة من 4 أبواب، وهي:
- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحشد فيه عشرات الأدلة النصية من
الآيات والأخبار والآثار، مع جهد تحليلي واضح لبيان دلالة النص ووجه الحجية فيه.
- الأركان والشروط، وهو القسم الأهم؛ إذ يتحدث فيه تفصيلاً عن 4 أركان
للحسبة (وهي عبارة شاملة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهي: المحتسب، والمحتسب
عليه، والمحتسب فيه، ونفس الاحتساب، ولكل منها شروطه.
- في المنكرات المنتشرة في زمانه: وفيه ينتقل من المستوى النظري الذي نجده
في المدونات الفقهية إلى المستوى الواقعي؛ حيث يقدم إحصاء بالمنكرات المتعينة في
البيوت وفي الأسواق وفي الشوارع وفي التعاملات البينية بين الأفراد.
- في كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لدى الحكام ورجال السلطة والنفوذ.
وعبر الفصول الأربعة، يناقش الغزالي مسائل على قدر كبير من الأهمية، منها: هل يجوز للصبي النهي عن المنكر بحجة أن التكليف شرط في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؟ وهو يرجح أن الصبي المراهق للبلوغ المميز -وإن لم يكن مكلفاً- فله إنكار المنكر، وله أن يريق الخمر ويكسر الملاهي، وإذا فعل ذلك نال به ثواباً، ولم يكن لأحد منعه من حيث إنه ليس بمكلف، فإن هذه قربة وهو من أهلها كالصلاة والإمامة وسائر القربات، وليس حكمه حكم الولايات حتى يشترط فيه التكليف.
ومنها مسألة هل يجوز للفاسق أن يحتسب؟ وهو يقطع بجواز ذلك وحجته أنه لو
منعنا كل ذي معصية من الاحتساب لما بقي أحد ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وفي
ذلك خرق لإجماع الأمة، ويذهب الغزالي إلى ما هو أبعد حين يقرر أن جيوش المسلمين
تضم البر والفاجر ولم يمنعوا من الغزو، والاحتساب مثله مثل الجهاد.
ومنها مسألة هل يجوز للزوجة أن تحتسب على زوجها والابن على أبيه والتلميذ
على أستاذه؟ وحكمها مثل سابقتها الجواز لكنه يقيده بقيد؛ وهو أن يكون الاحتساب إما
بالقول أو بالمنع دون تعنيف؛ كأن يريق الابن آنية الخمر للأب ويمزق ثوبه الحريري.
ويقودنا هذا إلى ذكر درجات إنكار المنكر لدى الغزالي وهو على 5 مراتب:
الأولى: التعريف، وهذا في حال إذا كان الفاعل جاهلاً أن الفعل منكر.
الثانية: الوعظ بالكلام اللطيف (الموعظة الحسنة).
الثالثة: السب والتعنيف، ويوضحه بالقول: «ولست أعنى بالسب الفحش، بل أن
يقول: يا جاهل يا أحمق ألا تخاف الله وما يجري هذا المجرى؟».
الرابعة: المنع بالقهر بطريق المباشرة، ويمثل له بكسر الملاهي، وإراقة
الخمر، واختطاف الثوب الحرير من لابسه، واستلاب الثوب المغصوب ورده إلى صاحبه.
الخامسة: التخويف والتهديد بالضرب ومباشرة الضرب له حتى يمتنع من يقوم
بالمنكر.
والمراتب الأربع الأولى ليست بحاجة إلى إذن الإمام، أما الخامسة ففيها نظر؛
لأنها ربما احتاجت إلى عون وجمع أنصار من الجانبين مما يفضي إلى الفتنة لذلك يرجح
كونها بحاجة إلى إذن.
ويناقش الغزالي بتوسع مسألة موانع النهي عن المنكر ومتى يتم توقيف الفريضة،
وأولها العجز إذ ليس على العاجز حسبة كما يقول، والعجز ليس عجزاً حسياً كما ينبه،
ولكنه يشمل العجز المعنوي، وثانيها: الخوف من وقوع المكروه، وثالثها: عدم الجدوى «إذا
علم أن إنكاره لا ينفع»، فإذا اجتمع مانعان كالخوف وعدم جدوى الإنكار كأن «يعلم
أنه لا ينفع كلامه، ويُضرب إن تكلم، فلا تجب عليه الحسبة، بل ربما تحرم في بعض
المواضع».
أما إذا وجد مانع واحد كأن علم جدوى إنكاره للمنكر لكنه يخشى ضرباً أو ضرراً متوقعاً فهذا «ليس بواجب وليس بحرام، بل هو مستحب»، وأما كيف يستقيم ذلك مع قوله تعالى (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: 195)، هنا يقيس الغزالي على الجهاد إذ لا خلاف في أنه يجوز للمسلم الواحد أن يهجم على جمع من الكفار المحاربين حتى وإن علم أنه يقتل لأنه يكسر قلوب الكفار بجرأته.
ويناقش كذلك ماهية المنكر الواجب إنكاره وشروطه تحت عنوان «ما فيه الحسبة»،
وهذا المنكر كما عرفه في فقرة الاستهلال هو كل منكر موجود في الحال ظاهر للمحتسب
بغير تجسس معلوم كونه منكراً بغير اجتهاد، فهذه 4 شروط:
الأول: كونه منكراً؛ أي محذور الوقوع في الشرع، وقد عدل عن لفظ معصية لأن
المنكر أعم كما يقول.
الثاني: أن يكون موجوداً؛ أي ليس زائلاً في الماضي أو يتوقع حدوثه في
المستقبل.
الثالث: أن يكون ظاهراً من غير تجسس، فليس للمحتسب أن يتجسس ويتتبع
العورات.
الرابع: أن يكون معلوماً كونه منكراً من غير اجتهاد، فكل ما هو محل
الاجتهاد لا حسبة فيه.
الخلاصة: إن تحليل الغزالي للنهي عن المنكر عمل فريد فيه من الأصالة ما
يجعله متفرداً عما قدمه الآخرون، حيث ذهب إلى مد دائرة التكليف لتشمل العبيد
والصبيان والنساء وآحاد الرعية، وحيث جعل النهي عن المنكر 5 مراتب خلافاً للتقسيم
الثلاثي (اليد، اللسان، القلب)، وحيث جمع بين الإطارين التحليلي والتشغيلي إذ
انتقل من التنظير إلى إحصاء المنكرات العامة (في الأسواق، الشوارع، الحمامات)
والمنكرات الخاصة (المنازل)، وهذا كله يجعل عمله غير مسبوق.