حصاد المنهزمين!

بلغت الحضارة الغربية الراهنة مبلغاً رفيعاً في مضمار التقدم العلمي
والتقني وميدان التنظيم الاجتماعي بمختلف قطاعاته، الأمر الذي حقق لهذه الحضارة
حضوراً وهيمنة على مختلف الحضارات المعاصرة.
وجراء الشعور بالهزيمة النفسية إزاء هذه الحضارة الطاغية المنتصرة، وربما
عن رغبة غير واعية في بعض الأحيان، كان ذلك الحرص الملحّ لدى البعض في مقتبل بحث
الأمة عن أسباب النهضة من كبوتها، وتلمّس طريقها للخروج من مأزقها على الأخذ
بأساليب تلك الحضارة الغالبة، والسير على منوالها في مختلف المجالات.
وفي مجال التعليم والتربية الذي ينعقد الاتفاق على أهميته، بل اعتباره
مفتاح التغيير أو عصا التحويل، كان الخطب أفدح؛ إذ حرص هؤلاء المنهزمون من موقع
السلطة والمسؤولية أن يعجلوا عملية النقل والتقليد أملاً في اللحاق بالركب وتجاوز
الهوة السحيقة التي تفصلنا عن تلك الأمم المتصدرة، فكان الاستعانة بالخبراء وإرسال
البعثات ونقل التجارب والأشكال، وغيرها من الجهود التي تصدر عن قناعة ملأت العقول
والقلوب بأن هذا هو السبيل للنهوض والرقى.
وأهمل النظر في تراثنا، ووجه بموجة عارمة من النكران والجحود والسخط
باعتباره في وهم البعض أحد أهم أسباب التخلف والسقوط.
وكانت نتيجة ذلك كله هذه الأجيال التي نشأت مقطوعة الصلة بماضيها، شديدة
الانبهار بالآخرين، فاقدة التمييز، ضعيفة الفاعلية، قليلة الإنتاجية، ولا غرو، فلا
يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، والتجارب التربوية والقيم الثقافية، على
وجه الخصوص، غالباً ما تكون إفرازات واقع معين تعبر عن طبيعته وظروفه وتاريخه، ولا
يمكن بحال أن تستنبت، وتؤتي أكلها في بيئة غير بيئتها، كما يؤكد مؤخراً علماء
التربية والاجتماع.
ولقد بات لزاماً علينا من باب الحرص على استعادة الثقة في تراثنا التربوي
على وجه الخصوص، أن نطوف به من حين لآخر، نقتطف من زهراته، ونبرز خصائصه ومميزاته
مقارناً بما علية واقع تلك الحضارة المهيمنة المتغلبة لنرى مواقع أقدامنا، ونستعيد
ذاتيتنا المتميزة، ونجدد الثقة بالنفس وبالمنهج فلا تتقاذفها الأهواء والأنواء،
فننطلق من هذا كله إلى المستقبل المشرق المأمول على وعي وبصيرة.
وإزاء هذه الجهود البناءة في اتجاه استعادة الهوية المفقودة، لا يتوقع، ولا
ينبغي أن نتوقع أن يقف المنهزمون، ومن يمدونهم في الغي من وراء البحار مكتوفي
الأيدي، فهم يدافعون عن مصالح موهومة يحرصون عليها، وشهوات مستبدة يأنسون بها، ولا
يجدون فكاكاً منها، وأهواء طاغية تختلط بالذات حتى يبدو الأمر في نهاية التحليل
أنهم يدافعون عن حياتهم، بل عن ذواتهم المتهاوية بكل ما تحمله كلمة الذات من
دلالات.
ومن ثم، فإن الصبر والنفس الطويل والحكمة وحسن التأني هو أهم عتاد
المجاهدين في مواجهة هذى القوى الشريرة التي تستمد قوتها البادية حالياً من
تجمعها، وتآزرها، وتسلطها على مراكز القوة لا من حق تعتصم به وتستند إليه شأننا
نحن.
وتبقى الحقيقة الكبيرة التي تحكم معادلة هذا الصراع الأبدي بناموس إلهي
متمثلة في قوله تعالى: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ
وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ
فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (الرعد: 17).
وقد تطول نوعاً ما عملية إزالة هذا الركام المتطامن، لكنة زائل لا محالة
بجهود المخلصين تلك التي تستمد قوتها وتستلهم خطتها من يقينها ببشارات الحق
سبحانه، ووعوده التي لا تتخلف؛ (وَيَوْمَئِذٍ
يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ {4} بِنَصْرِ اللَّهِ) (الروم).