قراءة في كتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى»

من أهم ما تحتاج إليه الأمة الإسلامية في عصرنا هو أن تتحول أنماط حياتها عما هي عليه من مخالفات في عاداتها وتقاليدها إلى الشكل الذي كان يربي عليه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حتى قوّم نفوسهم، وأقامها على ما يرضي الله تعالى، فجعل منهم خير أمة أخرجت للناس؛ فصدرت عنهم عجائب ما شهدها التاريخ في سالف أيامه، فلم تنقض ولن تنقضي آثارها حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وهذا كله بفضل تأثرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وتمثلهم لصفاته الشخصية وأخلاقه العملية، مهتدين بهديه، مقتفين لآثاره في كل حال وقول وعمل.

أولاً: مؤلف الكتاب:

أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، المولود في مدينة سبتة بالأندلس (476 - 544هـ)، وقد نشأ في أسرة علمية عُرفت بالفقه والحديث، وأصبح من كبار المالكية في الغرب الإسلامي، وقد تقلد القضاء في سبتة وغرناطة، واشتهر بصلابته في الحق والدفاع عن السُّنة، وله العديد من المؤلفات العلمية النافعة.

ثانياً: سبب تأليف الكتاب:

ألّف القاضي عياض كتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى»، وأوضح في مقدمته أنه ألّفه استجابةً لطلب طلابه وأهل العلم في زمانه ليجمع لهم أحكامًا شاملة في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة قدره الشريف وحقوقه الواجبة.

وقد بارك الله في هذا الكتاب حتى صار مرجعًا في التعريف بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم، وتبوأ مكانة كبيرة في علوم السيرة والشمائل، وكان يُدرَّس في حلقات العلم بالمغرب والأندلس والمشرق.

ثالثاً: منهج الكتاب:

اتبع القاضي عياض منهجًا علميًا دقيقًا في كتابه، تميّز بما يأتي:

1- التأصيل الشرعي، حيث اعتمد على القرآن الكريم، والسُّنة النبوية الشريفة، وأورد أقوال الصحابة والتابعين والأئمة.

2- تنوع الاستدلال، حيث جمع بين النصوص الشرعية والأدلة العقلية.

3- الرد على الشبهات، فقد تناول افتراءات بعض الزنادقة والمستشرقين وردّ عليها بأسلوب علمي رصين.

4- بلاغة الأسلوب وفصاحته، فقد تميز الكتاب بفصاحة لغته وقوة حجته وحسن ترتيبه.

5- الاعتناء بالشمائل النبوية، حيث اهتم الكتاب ببيان أبرز صفات النبي صلى الله عليه وسلم خَلقًا وخُلقًا، وجمع دلائل مكانته العظمى.

رابعاً: محتوى الكتاب:

أورد القاضي عياض في مقدمة كتابه بيان ما احتوى عليه، حيث جاء الكتاب في 4 أبواب:

الأول: في تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وبيان مكانته عند الله؛ حيث تناول فيه: مكانة النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم وخصائصه وفضائله على سائر الأنبياء، ودلائل نبوته ومعجزاته الكبرى، ثم تحدث عن شرف نسبه وطيب مولده.

الثاني: في حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة؛ حيث تناول فيه: وجوب محبته فوق محبة النفس والأهل، ووجوب طاعته واتباع سُنته، وآداب الصلاة والسلام عليه، والدفاع عنه وتعظيمه ونصرته بالقول والعمل.

الثالث: في حكم من ينتقص من النبي صلى الله عليه وسلم أو يسبّه؛ حيث تناول فيه: بيان خطورة سبّ النبي صلى الله عليه وسلم أو الاستخفاف بحقه، وإجماع العلماء على كفر من سبه أو استهزأ به، ثم نماذج تاريخية لمن عوقبوا بسبب إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم.

الرابع: في معجزاته وشمائله صلى الله عليه وسلم؛ حيث تناول فيه: أخلاقه العالية ومكارمه العظيمة، ووصف خَلقه وخُلقه الشريف، ومعجزاته، ورحمته بالخلق عامة وبالمؤمنين خاصة.

خامساً: مكانة الكتاب بين المسلمين:

يتميّز كتاب الشفا بأنه مرجع دعوي وعلمي في آن واحد، حيث:

1- يؤصل محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه تأصيلًا شرعيًا يقوم على نصوص الكتاب والسُّنة، ويؤكد أن محبته صلى الله عليه وسلم أصلٌ من أصول الإيمان، وليست شعورًا عاطفيًا فقط، بل التزام عملي بمنهجه.

2- يضع خريطة شاملة لحقوق النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعة والاتباع والنصرة والاقتداء، ويحذر من الجفاء في حقه صلى الله عليه وسلم، سواء في الأقوال أم الأفعال، كما يؤكد أن تعظيمه صلى الله عليه وسلم سبب لعلوّ الأمة، وأن التقصير في ذلك سبب للذلة والخذلان.

3- يزوّد الداعية بمادة إيمانية ثرية تجذب القلوب وتعمّق محبة الحبيب صلى الله عليه وسلم في القلوب، كما يحرص على توظيف مواقف الصحابة في التضحية من أجله صلى الله عليه وسلم كمادة إيمانية تؤثر في القلوب وتحملها على محبته وتعظيمه.

4- يوفّر أدلة عقلية ونقلية للرد على الشبهات المثارة حول مقام النبي صلى الله عليه وسلم، ويضاف إلى ذلك أنه يُنمّي عند المسلمين الغيرة على حرمات النبي صلى الله عليه وسلم وردّ أي إساءة إليه بالعلم والحكمة.

5- يمدّ الدعاة بأساليب تربوية متنوعة، تعزز قدرتهم على توظيف السيرة والشمائل في الخطاب الدعوي، كما يسهم في ضبط العلاقة بين التعظيم والغلوّ، حيث بيّن القاضي عياض أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة، لكن الغلوّ في تعظيمه ممنوع، وهو ما يُفيد في تصحيح الممارسات الخاطئة المرتبطة بمظاهر الاحتفال، وتوضيح الفرق بين المحبة الصادقة والبدع المحدثة، وبهذا يرسّخ الكتاب مبدأ الوسطية في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو منهج دعوي مهم في مخاطبة الناس.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة