الهجرة رجال ومواقف.. أبو بكر الصديق رضي الله عنه

الهجرة حدث إيماني يقيني جهادي تاريخي من أعظم الأعمال، ولذا عدت من أعظم 3 معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد معجزة الرسالة، ومعجزة الإسراء والمعراج، وما كانت الهجرة إلا رجالًا صدقوا مع الله تعالى في بيعتهم، ومواقف عظيمة جليلة صدرت منهم في حدث الهجرة، ولسنا نتحدث عن مواقف النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الهجرة بنفسها، ولكنا نذكر مواقف بعض أصحابه المهاجرين معه، وكلهم ذا موقف عظيم ونبيل.

وأول الرجال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وما أعظم مواقفه في الهجرة! حتى كادت أن تكون الهجرة كلها أبا بكر، ولذا ذكره الله تعالى بأعظم صفة يحبها الصحابة ولم تذكر في القرآن لغيره، قال تعالى: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة: 40)، فلننظر إلى كلمة صاحبه، وما أجملها من وصف! ولم يختلف اثنان على كونه أبا بكر.

- إنفاقه المال على الهجرة:

أنفق أبو بكر الصديق على الهجرة كل ماله، فعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَخَرَجَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلَّهُ مَعَهُ: خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، أَوْ سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، قَالَتْ: وَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ.

قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدِّي أَبُو قُحَافَةَ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ، فَقَالَ: وَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ، قَالَتْ: قُلْتُ: كَلَّا يَا أَبَهْ، إِنَّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا، قَالَتْ: فَأَخَذْتُ أَحْجَارًا، فَوَضَعْتُهَا فِي كُوَّةِ الْبَيْتِ، كَانَ أَبِي يَضَعُ فِيهَا مَالَهُ، ثُمَّ وَضَعْتُ عَلَيْهَا ثَوْبًا، ثُمَّ أَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَهْ، ضَعْ يَدَكَ عَلَى هَذَا الْمَالِ، قَالَتْ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ، إِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا، فَقَدْ أَحْسَنَ، وَفِي هَذَا لَكُمْ بَلَاغٌ.

قَالَتْ: وَلَا وَاللهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا، وَلَكِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أُسَكِّنَ الشَّيْخَ بِذَلِكَ(1).

ولذا مدحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ، مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ»، قال: فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: هَلْ أَنَا وَمَالِي إِلَّا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ(2).

- بذل نفسه وولده:

لقد بذل أبو بكر نفسه لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وما ذاك إلا دفاعًا عن الرسالة وصاحبها، ولأجل الوصول الآمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، بدءًا من قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: الصحبة يا رسول الله.

فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَا جَاءَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لَأَمْرٌ حَدَثَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا هُمَا ابْنَتَايَ، يَعْنِي عَائِشَةَ، وَأَسْمَاءَ، قَالَ: «أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ»، قَالَ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «الصُّحْبَةَ»، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ عِنْدِي نَاقَتَيْنِ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ، فَخُذْ إِحْدَاهُمَا، قَالَ: «قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ»(3).

- يسخّر أهله لمشروع الهجرة:

عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ، وَضَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَأَوْكَتْ بِهِ الْجِرَابَ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ تُسَمَّى ذَاتَ النِّطَاقِ، ثُمَّ لَحِقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: ثَوْرٌ، فَمَكُثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُاللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ لَقِنٌ ثَقِفٌ، فَيَرْحَلُ مِنْ عِنْدِهِمَا سَحَرًا، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلِهَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ(4).

يقول الشيخ المباركفوري: جاؤوا إلى بيت أبي بكر، وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها: أين أبوك؟ قالت: لا أدري والله أين أبي؟ فرفع أبو جهل يده -وكان فاحشاً خبيثاً- فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها(5).

ويسخر ابنه عبدَالله الشاب اللقن الثقف ليأتيهما بأخبار مكة؛ أي يستعمله مخابرات سرية، ومصدر أخبار، وهي أعمال في منتهى الخطورة في ذلك التوقيت.

كما يسخر مولاه عامر بن فهيرة في إزالة آثار عبدالله بآثار أقدام غنمه، وكذا باستفادتهما من لبن الغنم، ثم بخدمة عامر لهما وهما في الغار وطوال الرحلة بعد ذلك.

- خوف أبي بكر على النبي:

عَنْ عمر قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْغَارِ، وَمَعَهُ أبو بكر، فَجَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَاعَةً خَلْفَهُ، حَتَّى فَطِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُ الرَّصَدَ، فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْكَ، فَقَالَ: «يَا أبا بكر، لَوْ كَانَ شَيْءٌ أَحْبَبْتَ أَنْ يَكُونَ بِكَ دُونِي؟»، قَالَ: نَعَمْ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ(6).

- في الغار:

قال الشيخ المباركفوري: ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقباً فشق إزاره وسدها به، وبقي منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل.

فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الحجر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما لك يا أبا بكر؟»، قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب ما يجده(7).

ما هذا الفداء يا أبا بكر! والله لقد فعلت مالم يفعله غيرك، ولذا نلت به ما لا يستطيع أحد أن يطاولك فيه.

ولذا، قال عمر رضي الله عنه لما شعر أن البعض يفضله على أبي بكر: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر(8)؛ يقصد في الهجرة.

 




__________________

(1) رواه أحمد (26957)، وإسناده حسن.

(2) رواه أبو هريرة، عند ابن ماجة (94)، وإسناده صحيح.

(3) رواه البخاري (2138).

(4) رواه البخاري (5807).

(5) الرحيق المختوم، ص150.

(6) زاد المعاد (3/ 48-49).

(7) الرحيق المختوم، ص149.

(8) الحاكم في المستدرك (4268).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة