مليارديرات الصحابة!

على مدار أكثر من 4 عقود، اختزل المشهد الدعوي بكل أنواعه، خاصة الخطابي الوعظي في الحديث عن جيل الصحابة، بأنهم كانوا أبعد الناس عن الدنيا- تنفيراً منها- وجردوا الزهد من مفهومه وجوهره الحقيقي، ما ولّد نوعاً من المسلمات الإيمانية بأن الصحابة لم يكن لديهم إرب أو أي تعامل دنيوي.

صار البحث عن الكسب الحلال نوعاً من السبّة الدنيوية التي لا ينبغي لمتصدري العمل الدعوي الوقوع في شراكها، لأن الدنيا ستأتي راغمة لك عندما تزهد فيها، ما زرع في النفوس عملية من الاستسلام لقساوة الواقع المعيشي دون البحث عن أساليب تغييره.

هذا الخطاب استقرّ في أذهان الأجيال طيلة عقود، ولا تجد الحديث عن الصحابة إلا في هذه المتوالية من الزهد والانسلاخ من الدنيا؛ ما ترك إرثاً دعوياً ولّد نوعاً من التكلس وقتل الطموح وعدم القدرة على التغيير والاستسلام لواقع مرير تعيشه الأمة وما زالت تعيشه من الرضا بالفقر، وأن البحث عن الثراء هو طريق الشيطان، على الرغم أن الإجماع منعقد على كسب المال من حله، وأنه مندوب شرعاً للشخص أن يوسع على أهله وولده، وأن كسب المال من حلّه بمنزلة الجهاد(1).

كما أن الصحابة أجمعين كانوا أكمل الناس علماً وفهماً في التعامل الدنيوي حسّاً ومعنى.

العشر المبشرين بالجنة في صدارة قائمة الأثرياء

في الحقيقة أننا نحتاج إلى قراءة جديدة عن جيل الصحابة تولّد الإيجابية وتبعدنا عن الإحباط والاستسلام للواقع المعيشي المرير، وقتل الطموح والأمل، وأن الدنيا خلقت لمجموعة غير المؤمنين، على الرغم أنه بقراءة سريعة سنجد أن العشرة المبشرين بالجنة كانوا متصدرين لقائمة الأغنياء في عصرهم.

فكما تصدروا أيضاً قائمة الإيمان والتضحية في سبيل الله، كانوا أيضاً في صدارة قائمة الأغنياء في عصرهم.

نحن لا نتحدث هنا عن أغنياء أو رجال أعمال بلا قيمة أو ضمير، بل عن أفضل الناس بعد الأنبياء وأفضل جيل فهم الدنيا والدين معاً.

فعندما تقرأ حياة الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوف تجد أنه بدأ من الصفر في التجارة، حتى وصل لأكبر أثرياء دولة المدينة، فقد كان سعيداً في التجارة، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً؛ أي له 20 موتوراً زراعياً لريّ مزارعه(2).

ترك مالاً جزيلاً، من ذلك كتل من الذهب قطع بالفؤوس حتى تورّمت أيدي الرجال!

وكان نساؤه أربعاً فصولحت إحداهن من ربع الثمن بـ80 ألفاً، فلك أن تتخيل تركته، إضافة إلى ما كان يقوم به من أعمال البر والصدقات، فقد سجلت كتب التاريخ أرقاماً فلكية في العطاء والإنفاق منها:

- أوصى لكل رجل ممن بقي من أهل «بدر» وكانوا حوالي 100 رجل بـ400 دينار ذهبية، فأخذوها حتى عثمان، وعلي، أخذوا منها.

- أوصى لكل امرأة من أمهات المؤمنين بمبلغ كثير حتى كانت عائشة تقول: سقاه الله من السلسبيل.

- أعتق عدداً كبيراً من مماليكه.

- خلف أيضاً 1000 بعير، و3 آلاف شاة، و100 فرس(3).

وكما تصدر الصحابي عبدالرحمن بن عوف قائمة المليارديرات، فقد كان قريباً منه الصحابي عثمان بن عفان، فهو الرجل الثاني في الثراء ومن العشر المبشرين بالجنة.

أيضاً لا يعرف الكثيرون عن الصحابي الزبير بن العوام إلا أنه حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان منسلخاً من الدنيا بلغة الخطاب الدعوي الرتيب، دون أن يكشف الخطاب أنه قد خلّف تركة عظيمة فأوصى من ذلك:

- الثلث بعد إخراج مليوني و200 ألف دينار.

- بعد قضاء دينه، وإخراج ثلث ماله قسم الباقي على ورثته فنالت كل امرأة من نسائه -وكن أربعاً- مليوناً ومائتي ألف.

- مجموع ما تركه 59 مليوناً و800 ألف، وكل هذا من وجوه الكسب الحلال التي نالها في حياته.

وقد ترك كل هذه التركة بعد إخراج الزكاة في أوقاتها، وما كان يقوم به من أعمال الخير الواسعة، حيث كان له 1000 مملوك يؤدون إليه الخراج، وكان يتصدق بذلك كله.

فنحن أمام لغة أرقام بالملايين لصحابي من العشر المبشرين بالجنة، وهذا الأمر ينسحب أيضاً على حياة الصحابي طلحة بن عبيدالله الملقب بـ«الفياض» لكثرة الإطعام والإنفاق النابع من أموال عظيمة كان يمتلكها.


«كاتم السر».. لماذا خُصَّ حذيفة بن اليمان بأسماء المنافقين؟ |  Mugtama
«كاتم السر».. لماذا خُصَّ حذيفة بن اليمان بأسماء المنافقين؟ | Mugtama
تكمن عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم في اكتشافه ل...
www.mugtama.com
×


الجيل الثاني من ملوك الصحابة

وعندما ننتقل إلى أسماء أخرى من الصحابة بعيداً عن الجيل الأول منهم وهم أعلام الدنيا والدين، تجد أيضاً أسماء لامعة في العبادة والثراء معاً، فنحن دائماً نصدر الخطاب الديني عن العبادلة الأربعة، ومنهم الصحابي عبدالله بن عمرو بن العاص، بأنهم كانوا خارج الحسابات الدنيوية، على الرغم أن الصحابي عبدالله بن عمرو كان على درجة من الثراء تجعله في عداد ملوك الصحابة.

فكان من ضمن ممتلكاته «الوهط»؛ وهو بستان من العنب ورثه عن أبيه في الطائف، كانت الدعامات الخشبية لهذا البستان يقدر عددها بمليوني خشبة، فكيف تتصور ما كان ينتجه هذا البستان من فاكهة(4).

وكان أيضاً الصحابي عبدالله بن عامر بن كريز الذي تولى قيادة الفتوح في الشرق الإسلامي في خلافة عثمان، وأتمها في خلافة معاوية، وعندما مات حزن عليه معاوية وقال: «دفنا شرفنا».

كما بلغ به الحد من الثراء أنه حينما كان والياً على البصرة صعد المنبر في يوم الأضحى وقال: «من أخذ شاة من السوق أضحية فثمنها عليّ»(5).


في حادث الهجرة.. لماذا سراقة بن مالك خلف النبي ﷺ؟ |  Mugtama
في حادث الهجرة.. لماذا سراقة بن مالك خلف النبي ﷺ؟ | Mugtama
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم مليئة بالدروس والعب...
www.mugtama.com
×


مطلب لتغيير الخطاب الدعوي

- البعد عن تصدير واستدلال بوقائع عن الصحابة مقتضبة ومختزلة، تركوا الدنيا فكانت نجاتهم.

- تصدير هذا النوع من الخطاب المختزل على مدار عقود جعلنا أبعد ما نكون عن واجبنا في الدنيا، والذي ولّد نوعاً أقرب ما يكون من الانهزامية، وقتل الطموح في النفوس وبث روح التكلس وعدم التغيير.

-الزهد في الدنيا لا يعني تركها، بل هي موجودة كاملة في حياتنا، وهنا تكشف المعادن على حقيقتها فيكون القدوة بيننا أبو عبيدة بن الجراح الزاهد العفيف، وابن عوف الغني الشاكر، وأبو ذر، وأويس القَرَني نموذجين للفقير الصابر.

- لم يتناول الخطباء والوعاظ ولو لمرة حديثاً عن مليارديرات الصحابة، بل إن العشرة المبشرين بالجنة كان بينهم الملياردير وأكثر من مليونير، مع عمق التدين والجهاد في سبيل الله.

- هذا الخطاب يكرّس لحالة الفقر والعوز التي لا تناسب حال الأمة عامة في الوقت الحالي، التي يعيش أغلب أبناؤها بعيداً عن كل أساليب الرفاه في الحياة.




____________________

(1) محمد بن أحمد القرطبي: تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن).

(2) ابن عبدالبر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب.

(3) ابن كثير: البداية والنهاية.

(4) د. محمد البلتاجي عميد كلية دار العلوم الأسبق: دراسات مختارة من السُّنة النبوية.

(5) الذهبي: سير أعلام النبلاء.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة