المسجد.. بين قدسية المكان وتجاوزات الغافلين

لم يكن أمراً عفوياً أن يكون أول ما فكر فيه وقام به النبي صلى الله عليه وسلم عند وصوله للمدينة المنورة هو إنشاء مسجد يجتمع فيه المسلمون على طاعة الله عز وجل فيؤدون فيه الصلوات الخمس، ويتشاورن حول ما يشغلهم وما يعتزمون القيام به، فضلاً عن أن يكون المدرسة الأولى لتعليم صحابته الكرام أمور دينهم.

والمساجد هي بيوت الله وخير بقاع الأرض التي يحبها الله، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحب البقاع إلى الله مساجدها وأبغضها إليه أسواقها» (رواه مسلم).

لكن، وبكل أسف، شابت هذه النظرة المفعمة بالتقدير والتوقير للمساجد بعض السلوكيات الصادرة عن أناسٍ تناسوا أو تجاهلوا تعاليم الدين الحنيف؛ فتجاوزوا آداب المساجد الواجبة، حتى بات بعضهم –كما حدث مؤخراً في أحد بلادنا- لا يتورع عن التشاجر داخل المسجد غير آبهين بمن يقفون بخشوع بين يدي الله، فيما آخرون حوّلوه -بجهلهم أو استهتارهم- إلى ساحة لسلوكيات تخدش قدسيته وتنتهك حرمته.

مكانة المسجد

لعل مما يلفت النظر عند الحديث عن مكانة المساجد في الإسلام أن كلمة مسجد ذكرت في القرآن الكريم نحو 28 مرة، وفي ذلك بالطبع دلالة مهمة؛ فهي وكأنها رسالة إلهية تذكر المسلمين وباستمرار بأن لهذا المكان مكانته ودوره الذي لا يجب أن ينسوه.

فالله عز وجل ينسب المساجد لنفسه، فهي له دون غيره؛ مصداقاً لقوله تعالى: (وَأَنَّ ٱلْمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا۟ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدًۭا) (الجن: 18)، وهو إشارة إلى أن المساجد مخصصة لله وحده ومكان توحيده وعبادته وهو ما أكده بقوله: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ) (النور: 36)؛ ومن ثم فإن من يعمرها هم المؤمنون العابدون؛ مصداقاً لقوله: (إِنَّمَا یَعۡمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمۡ یَخۡشَ إِلَّا ٱللَّهَۖ فَعَسَىٰۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَن یَكُونُوا۟ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِینَ) (التوبة: 18).

ولقد حرصت السُّنة النبوية أيضاً على إبراز هذه المكانة، فكان من ذلك قول النبي صلى الله عليم وسلم: «من بنى لله مسجداً، بنى الله له بيتاً في الجنة» (رواه البخاري، ومسلم).


أبرز 10 أدوار للمسجد |  Mugtama
أبرز 10 أدوار للمسجد | Mugtama
اختص الإسلام المساجد بمكانة عظيمة، وقيمة كبيرة في...
www.mugtama.com
×


مركز حضاري

وعلى الرغم من اتساع الدولة الإسلامية مقارنة بما كانت عليه في بداية الدعوة، فضلاً عن ازدهارها وإنشاء المدارس والمؤسسات المختلفة، فإن المسجد ظل على مكانته ليس باعتباره مكاناً للتعبد فحسب، بل لدوره الحضاري والتعليمي الذي كان يقوم به في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

ويبرز من النماذج الدالة على ذلك الجامع الأزهر الذي تأسس في القرن العاشر الميلادي، وظل حتى اليوم كإحدى أعرق الجامعات في العالم، وكذلك جامع القرويين بالمغرب الذي يُعد أقدم جامعة في العالم، بحسب موسوعة «غينيس»، ودرس فيه علماء كبار مثل ابن خلدون وابن رشد، فيما كان مركزًا لتدريس الطب والرياضيات والحديث.

ومنها أيضاً الجامع الأموي بسورية الذي يعد من أروع التحف المعمارية الإسلامية التي لم تزل تبهر الزائرين، فيما كان يضم بين جنباته مكتبة ضخمة ومجالس علمية ساهمت في تخريج علماء، منهم ابن كثير، والنووي، وابن تيمية.

ولا يزال المسجد حتى الآن يقوم في العديد من البلدان خاصة غير الإسلامية ومن خلال المراكز الإسلامية الملحقة به بدور مهم في التعليم والتوجيه وتقديم الإسلام ولم شمل المسلمين.

آداب المساجد

ونتيجة لهذه المكانة، فقد حرصت التوجيهات الإسلامية على أن تضع حزمة من الآداب التي يجب الالتزام بها خلال التوجه للمسجد أو المكوث به، ومنها تحية المسجد التي تعد سُنة مؤكدة في كل وقت حتى في أوقات النهي؛ لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين»، ومنها الحرص على نظافة المسجد والبعد عن كل ما يجلب له الأوساخ والنجاسات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها»، ومنها أيضاً عدم أكل أو شرب ما له رائحة كريهة كالثوم والبصل والدخان وغير ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أكل البصل والثوم فلا يقربن مصلانا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم».

والمسلمون مأمورون ألا يرفعوا أصواتهم في المساجد أو يبدوا نزاعاً وخصومة؛ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم وهيشَات الأسواقِ»؛ ومعناه: احذروا الاختلاط والفوضى ورفع الأصوات والمشاجرات والتدافع والخصومات التي تقع في الأسواق.

فيما يروى أن عُمر رضي الله عنه لما سمع رجُلَين يرفعَان أصواتَهما في المسجد دعَا بهما ثم قال: لو كنتُما من أهل البلَدِ لأوجَعتُكُما ترفَعَان صوتَكُما في مسجِدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. (رواه البخاري).

بل شددت التوجيهات الإسلامية على أن يحرص المسلمون على ألا تكون المساجد مصدر أذى حتى لو كان غير مقصود، فهي مكان أمن وأمان؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مَرَّ في شيءٍ من مساجِدِنا أو أسواقِنا بنَبلٍ، فليأخُذْ على نِصالِها، لا يعقِرْ بكفِّه مُسلِمًا» (متفقٌ عليه)؛ ومعناه: أن من مرّ بمسجد أو بسوق يحمل سهاماً فليغطي حدتها بيد أو بكيس حتى لا يجرح أو يؤذي أحداً.

وعدَّ النبي صلى الله عليه وسلم تخطي رقاب الناس يوم الجمعة من الأذى الذي يجب اجتنابه، فنهى عن ذلك تماماً فمما روي أن «رجلاً يتخطَّى رقابَ الناس يوم الجمعة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اجلِس فقد آذَيتَ» (رواه أبو داود).

بل وصل حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تحقيق الأمن والسلامة النفسية للقائمين في المساجد أن نهَى عن إشغالِ الناس بهمُوم الدنيا فقال: «من سمِعَ رجُلاً ينشُدُ ضالَّةً في المسجد فليقُل: لا ردَّها الله عليك، فإن المساجد لم تُبنَ لهذا» (رواه مسلم).


هل تبرع المدارس أهم من المساجد؟! |  Mugtama
هل تبرع المدارس أهم من المساجد؟! | Mugtama
ذهبت قبل 25 عاما إلى جاكرتا لافتتاح مسجد، وعندما ز...
www.mugtama.com
×


إنه ومع كل التوجيهات السابقة يندهش المرء أن يقع البعض في انتهاكات ومخالفات تتجاوز قدسية بيوت الله، فتقع منهم سلوكيات وأفعال تغضب الله في كل زمان ومكان، فما بالنا إذا كانت في المساجد فإنها بكل تأكيد تكون أشد حرمة.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة