نتنياهو وأحلام «إسرائيل الكبرى».. من خرائط الأمم المتحدة إلى خرائط الصهيونية الدينية!

لم يعد بنيامين نتنياهو بحاجة إلى لغة
المناورة أو أقنعة الدبلوماسية، فالرجل الذي يقود أعتى الحكومات اليمينية في تاريخ
الاحتلال يتحدث اليوم بلغة مكشوفة واضحة، معلناً أن ما يحرّكه ليس فقط مهمة حكومية،
بل أيضاً «مهمة تاريخية وروحانية»، ومُقراً بأنه مرتبط عاطفياً وفكرياً برؤية «إسرائيل الكبرى».
هذه ليست جملة عابرة في مقابلة لشبكة «i24» العبرية، خاصة إذا ما علمنا أن المُحاور هو الإعلامي المعروف
شارون غال، وهو عضو كنيست سابق عن حزب «إسرائيل بيتنا» اليميني الذي يرأسه أفيغدور
ليبرمان، وبالتالي فنحن أمام إعلان سياسي–أيديولوجي يعيد صياغة المشهد من نزاع على
حدود إلى مشروع توسعي شامل، تتغذى عليه خرائط الأمم المتحدة ومنصات السياسة
الدولية، وتتقاطع معه مشاريع الممرات الاقتصادية العابرة للقارات.
هذا التحول، الذي يزاوج بين الرمزية
السياسية والعمل الميداني، يفرض قراءة جديدة لموقع القضية الفلسطينية، ويفتح الباب
أمام أسئلة مصيرية حول مستقبل الإقليم وأمنه القومي، وحول الأدوات التي يمكن أن
تواجه هذا المسار التوسعي قبل أن يتحول إلى واقع دائم.
من التطبيع إلى الخرائط.. الرمزية تتحول إلى سياسة
في الجمعية العامة للأمم المتحدة صيف
العام 2023م، رفع نتنياهو خريطة «شرق أوسط جديد» خالية من فلسطين، موحداً اللون
على كامل الأرض المحتلة، في مشهد مثّل عملية محو رمزي لهذه القضية على منصة دولية
كبرى.
وفي العام التالي، عاد ليعرض خرائط «البركة
واللعنة»، رابطاً رؤيته بمشروع «الممر الاقتصادي الهندي – الشرق أوسطي – الأوروبي»
(IMEC)؛
وهو ممر يربط الهند بالخليج و«إسرائيل» وأوروبا عبر شبكات شحن وطاقة واتصال، ويعيد
تشكيل معادلات التجارة والممرات الدولية على حساب أطراف إقليمية مثل قناة السويس.
لم يكن هذا الخطاب معزولاً، فقد سبق أن
ظهر وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في باريس عام 2023م خلف منبر يحمل خريطة «إسرائيل»
كما يراها التي تضم الأردن والضفة؛ ما أثار إدانات عربية وغربية في حينه.. هذه
الرسائل البصرية والخطابية تؤكد أن فكرة «إسرائيل الكبرى» لم تعد في الهامش الفكري
لليمين الصهيوني، بل في صلب برنامجه السياسي.
«المهمة التاريخية».. بين العقيدة والميدان
في مقابلته الأخيرة، حين سُئل نتنياهو إن
كان يشعر أنه يؤدي «مهمة تاريخية وروحانية»، أجاب بالإيجاب، وأضاف أنه مرتبط جداً
برؤية «إسرائيل الكبرى»، هذا الربط العلني بين العقيدة الدينية- القومية والممارسة
السياسية، وفي ذروة حرب إبادة مفتوحة على غزة، يعكس لحظة ذوبان ما كان يُسمى الخطوط
الحمراء في الخطاب «الإسرائيلي»، إنه إعلان بأن المشروع التوسعي لم يعد بحاجة إلى
تبريرات أمنية أو اقتصادية، بل هو امتداد مباشر لفكرة استعمارية قديمة، تجد اليوم
غطاءً من التحالفات الإقليمية، ومسارات التطبيع، وصمت كثير من العواصم.
ما بعد فلسطين.. الخريطة التي تكشف النوايا
خريطة «إسرائيل الكبرى» التي يروّج لها
اليمين «الإسرائيلي» لا تتوقف عند فلسطين التاريخية، إنها تمتد لتشمل لبنان وسورية
والأردن، وأجزاء واسعة من مصر (سيناء)، والسعودية (شمال غربها)، والعراق (الأنبار
ونينوى)، والكويت، هذا التمدد ليس مجرد وهم جغرافي، وإنما انعكاس لعقيدة ترى في
المنطقة مجالاً حيوياً مفتوحاً، وفي الممرات المائية والبرية أوردة حياة يجب
السيطرة عليها.
هنا يصبح مشروع الممرات الاقتصادية، من «IMEC» إلى مشاريع البحر الأحمر والبحر المتوسط، أدوات سياسية بقدر ما
هي مشاريع بنية تحتية.
فلسطين في قلب المعادلة
تتآكل رواية «الديمقراطية الوحيدة» أمام
سيل الأدلة على الإبادة الجماعية، فيما تتقدم مسارات المساءلة الدولية، كما في
مذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو ومسؤولين آخرين
(نوفمبر 2024م)، لكن هذه المعارك القانونية، رغم أهميتها، لن توقف مشروع «إسرائيل
الكبرى» ما لم يترافق ذلك مع فعل ميداني مقاوم.
فلسطينياً، المطلوب ليس فقط الصمود، بل
زيادة الفعل المقاوم وتوسيعه، وإدراك أن كل فلسطيني داخل فلسطين وخارجها مستهدف في
هذا المشروع، وأن تصعيد الاشتباك مع الاحتلال هو أقصر الطرق لوقف أحلام نتنياهو
عند حدودها، مع ضرورة توحيد الخطاب السياسي الفلسطيني، ووقف النزيف الداخلي للقضية
الفلسطينية بسبب تعدد البرامج السياسية.
عربياً وإسلامياً، يفرض الواقع معادلة
واضحة: دعم المقاومة وإسنادها، وفرض كسر الحصار عن غزة، وعدم السماح بانكسارها، هي
صمام الأمان الأول، إلى جانب ذلك، فإن قطع العلاقات، وإلغاء اتفاقيات التطبيع،
ووقف ممرات التجارة، وإغلاق المجال الجوي أمام الطيران «الإسرائيلي»؛ يمكن أن يعيد
كل المنظومة السياسية في «تل أبيب» إلى حقيقة أن وجودها في هذه المنطقة مكلف إلى
حد الاستحالة.
على المستوى الدولي، الزخم الشعبي الهائل
ضد الإبادة يجب أن يتحول إلى فعل ميداني منظم: ملاحقة جنود الاحتلال والمسؤولين
الصهاينة في كل العالم، وتوسيع دوائر المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية والثقافية،
والضغط على الحكومات لقطع العلاقات مع «إسرائيل»، تحت عنوان الإبادة والأحلام
التوسعية التي تهدد الأمن العالمي.
بين الخرائط والوقائع
إن خرائط نتنياهو، وتصريحاته الأخيرة،
وخطط الممرات الاقتصادية، كلها تؤكد أن المشروع لم يعد في خانة التخمين، بل في
خانة التنفيذ المرحلي، لكن ما يُحسم على الخرائط يمكن أن يُكسر على الأرض، بشرط أن
يتشكل وعي فلسطيني عربي دولي موحد بأن مواجهة «إسرائيل الكبرى» ليست خياراً أخلاقياً
فحسب، بل ضرورة وجودية للأمن والاستقرار الدوليين.
المعركة إذن ليست فقط على فلسطين، بل على
صياغة مستقبل الإقليم، وعلى منع تحوله إلى مجال حيوي لمشروع استعماري جديد، يرفع
رايات قديمة بأدوات حديثة، والدرس التاريخي الأوضح أن المشاريع التوسعية، مهما
بلغت قوتها، تصطدم عند لحظة الحقيقة بجدار الإرادة حين يتحول الغضب إلى فعل،
والمقاومة إلى مشروع إستراتيجي متكامل.