دروس من السيرة النبوية..

إستراتيجيات النبي ﷺ في الاحتياط الأمني والفكري بعد الاتفاقات السياسية

لم تكن اتفاقات النبي صلى الله عليه وسلم مع القوى المختلفة؛ من يهود، ومنافقين، ومشركين، مجرّد صيغ سلمية مؤقتة، بل كانت إستراتيجيات محسوبة لتثبيت دعائم الدولة وحماية الدعوة.

وبعد كل اتفاق سياسي، كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخذ احتياطات دقيقة تحفظ الأمن الداخلي، وتمنع تسلل الغدر، وتضمن استقرار البناء الإسلامي.

والمقصود بالاحتياطات النبوية الإجراءات والتدابير الواقعية التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الاتفاقات السياسية لضمان تحقيق مقاصدها ومنع انحرافها.

الاحتياطات السياسية والأمنية

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على اتخاذ التدابير السياسية والأمنية بعد اتفاقاته مع خصومه، من خلال العديد من الإجراءات، ومن ذلك ما يأتي:

1- توثيق العهود:

كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أبرم اتفاقاً فإنه يكتبه، ويقيم الشهود عليه، زيادة في الاستيثاق وإلزاماً للخصوم به، فعند الهجرة من مكة إلى المدينة أقام اتفاقاً ومعاهدة مع اليهود في المدينة، وكتبها في وثيقة عامة، ما زالت بنودها محفوظة في كتب السير والتاريخ، وكذلك حين عقد «صلح الحديبية» أمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً بن أبي طالب أن يكتبه ويوثقه في حضور سهيل بن عمرو الذي كان مندوباً عن قريش.

2- المتابعة الدقيقة لمدى الالتزام بالعهود:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يراقب التزام الأطراف بالمعاهدات، فيكون على حذر منهم، بل كان يرسل أحياناً من يراقب تصرفاتهم ويتيقن من مدى التزامهم أو نقضهم للاتفاق دون أن يروه أو يتعاملوا معه، ويدل على ذلك ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود حين ظهرت بوادر خيانتهم.

3- إحكام السرية في المعلومات:

بعد كل اتفاق، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ على سرية قراراته العسكرية والسياسية، ففي «صلح الحديبية»، أوحى الله عز وجل إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذا يعد فتحاً مبيناً، فاستبشر صلى الله عليه وسلم بفتح مكة، وعقد النية عليه، لكنه أخفى ذلك، ولم يُخبر به إلا القلة الموثوقة من أصحابه.

4- الاستعداد العسكري رغم المعاهدات:

اتفق النبي صلى الله عليه وسلم مع سكان المدينة ألا يعتدي أحد منهم على أحد، لكن هذا لم يمنعه من إقامة الجيش وتأهيله، حتى إذا احتاج إليه كان مستعداً وقائماً، وكذلك بعد «صلح الحديبية»، لم يتوقف صلى الله عليه وسلم عن تدريب الجند وتحصين المدينة، بل أرسل السرايا وبعث الدعاة شرقًا وغربًا، فالمعاهدات لم تكن مدعاة للاسترخاء، بل فرصة لإعادة بناء القوة.

الاحتياطات الفكرية والتربوية

وهي التدابير التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم لحماية المسلمين من التأثر بغيرهم في الفكر والسلوك، حيث إن الأجواء العامة بعد الاتفاقات يحدث فيها انفتاح كبير؛ ما قد يؤدي إلى تسلل الأفكار الوافدة واستخدامها بدلاً من السلاح، ومن أهم التدابير الفكرية والتربوية التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتي:

1- تحصين المسلمين من التأثر الثقافي:

حاول بعض اليهود والمنافقين في المدينة بث الشبهات وإثارتها بين المسلمين، وذلك من خلال حكاياتهم القديمة التي دسوها في كتبهم، وأسئلتهم التشكيكية عن الإسلام، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن حصن المسلمين من ذلك، فمنع من قراءة هذه الكتب، وحذر من تصديق أهل الكتاب فيما يقولون.

ففي مسند أحمد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ وَقَالَ: «أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، ‌مَا ‌وَسِعَهُ ‌إِلَّا ‌أَنْ ‌يَتَّبِعَنِي».

وفي صحيح البخاري عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَؤُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ‌لَا ‌تُصَدِّقُوا ‌أَهْلَ ‌الْكِتَابِ، وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا: (قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 136)».

2- ترسيخ وعي الأمة بطبيعة العهود:

كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّم أصحابه أن العهد لا يعني الغفلة، وأن الوفاء لا يمنع الحذر، كما في قوله تعالى: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) (التوبة: 7)، فكان يرسخ لديهم فقه الموازنة بين الثقة والحيطة.

الاحتياطات الاقتصادية والاجتماعية

1- تنويع مصادر القوة الاقتصادية:

عندما عقد النبي صلى الله عليه وسلم اتفاقه مع أهل المدينة أقام السوق فيها، وحث أصحابه على التجارة والتخلص من سيطرة اليهود على الاقتصاد، بل إنه كان يعطي بعض أصحابه أماكن يزرعونها وينتفعون بثمرها، ولما أجلى بني النضير وأخذ أراضيهم قسمها بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار؛ أبي دجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة، كما روى ذلك ابن القاسم، وابن وهب، وفي البخاري من حديث أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير أرضاً من أموال بني النضير.

كل هذا كان حرصا ًمنه صلى الله عليه وسلم على تنويع مصادر المال من أجل بناء القوة الاقتصادية للمسلمين طلباً للاستقلال المادي والسياسي عن خصوم الداخل والخارج.

2- تحصين المجتمع من الفتن الداخلية:

عمل النبي صلى الله عليه وسلم على تقوية روابط الأخوّة بين المهاجرين والأنصار، حتى لا تثمر محاولات اليهود في إثارة العصبيات القديمة، كما ورد في قوله تعالى: (‌وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران: 103).

الاحتياطات الدعوية والإعلامية

1- توضيح الرؤية للمجتمع المسلم:

بعد «صلح الحديبية» اعترض بعض الصحابة على شروط الصلح، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن بيّن لهم أن الصلح خطوة في طريق النصر، وأنه ليس تنازلًا، وإنما تدبير حكيم، فكانت هذه من أعظم صور الاحتياط الدعوي لتثبيت القناعة الجماعية.

2- ضبط الخطاب العام:

لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسمح لأحد من أصحابه أن يُصدر مواقف شخصية قد تُفهم خطأ بعد الاتفاقات، بل جعل الكلمة الرسمية بيده، حتى لا يُستغلّ أي كلام في الدعاية المعادية.

الاحتياطات الإستراتيجية

1- التوسّع في العلاقات الخارجية:

بعد أن أمِن النبي صلى الله عليه وسلم جانب قريش بالحديبية، بدأ بمراسلة الملوك والأمراء، يوسع نطاق الدعوة سياسيًا ودبلوماسيًا، فكان الحذر من الداخل يقابله انفتاح مدروس على الخارج.

2- تأمين الأطراف الحدودية:

بعث النبي صلى الله عليه وسلم سراياه إلى تخوم الشام واليمن، حتى لا يُفاجَأ بعدوّ جديد من وراء الحدود، فكان يُوازن بين التحصين الداخلي والتحرك الخارجي.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة