كيف يربي الله عباده بالابتلاء في الدنيا؟

يتعرض المؤمنون بالله عز وجل لابتلاءات قدّرها الله عليهم في الدنيا، ظاهرها إلحاق الضرر بهم، إلا أن باطنها يحمل معالم الخير والتربية والرعاية والحماية لهم، فهو سبحانه حين ينزل البلاء على عباده إنما ينزله عليهم لينتفعوا به، فهو أعلم بما يصلحهم وما يضرهم؛ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14)؛ ولهذا تعددت فوائد الابتلاء في الدنيا على النحو التالي:

أولاً: حماية العبد مما يضره في مستقبل الدنيا:

ينزل البلاء بالمؤمن فيحزن في دنياه، لكن الله تعالى يريد حمايته ورعايته، فعند الحاكم في «المستدرك» عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يحمي عبده من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه»،

والحماية كانت جلية فيما دار بين سيدنا الخضر وسيدنا موسى عليهما السلام عندما قتل الخضر الغلام فاعترض موسى بقوله: (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) (الكهف: 74)؛ فكان جواب الخضر يكشف الحماية لوالدي هذا الغلام بقوله: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً {80} فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) (الكهف)؛ وعند ابن جرير عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الغلام الذي قتله الخضر طُبع يوم طبع كافراً»، يحملهما حبه على متابعته على الكفر، ولو بقي كان فيه هلاكهما(1).

ثانياً: نزع الكبرياء والعظمة:

يريد الله أن ينزع الكبرياء والعظمة من صدر العبد حين يشعر بأن المال كثر في يده وأصبح عنده من الولد العدد وتنوع النعيم لديه، قد يردد شعار (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) (القصص: 78)، ويتكبر على المخلوقين، فالله بالابتلاء يبين للعبد ضعفه ويكشف له أن الكبرياء لله وحده وأن المتصرف في الكون هو الله تعالى فيعود العبد إلى ربه عابدا متواضعاً.

فعن عمرو بن شيبة قال: كنت بمكّة بين الصّفا والمروة، فرأيت رجلاً راكباً بغلة وبين يديه غلمان ينفّرون النّاس، قال: ثمّ عدت بعد حين فدخلت بغداد، فكنت على الجسر، فإذا أنا برجل حاف حاسر -مكشوف الرأس- طويل الشّعر، قال: فجعلت أنظر إليه وأتأمّله، فقال لي: مالك تنظر إليّ؟! فقلت له: شبهتك برجل رأيته بمكّة، ووصفت له الصّفة، فقال له: أنا ذلك الرّجل، فقلت ما فعل اللّه بك؟ فقال: ترفّعت في موضع يتواضع فيه النّاس، فوضعني اللّه حيث يترفّع النّاس(2)، هذا الرجل اعتبر بسوء موقفه مع ربه عند الكعبة كيف انقلبت حاله وهو بعيداً عنها بين الناس، فإن من تواضع لله عند بيته رفعه الله بين خلقه.

ثالثاً: الرجوع إلى الله تعالى:

يُنزل الله البلاء بالمؤمنين في الدنيا حتى يعودوا إليه بالتوبة والاستغفار والاعتراف بالتقصير، فقد يتعرض العبد للبلاء بالسراء ليعترف لربه بالنعم فيشكر، فإن تعالى وتجبر وتكبر ابتلاه بالضراء ليصبر ويعترف لله بالعبودية، فالله تعالى يقول: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف: 168).

واختبار الله للعباد تارة بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ‌ليصبروا، فصارت المحنة والمنحة جميعاً بلاء، فالمحنة مقتضية للصبر، والمنحة مقتضية للشكر، والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر، فصارت المنحة أعظم البلاءين(3)، وبهذا النظر قال: عمر رضي الله عنه: بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم نشكر(4).

رابعاً: العبرة والاتعاظ:

العبد قد يبتليه الله تعالى فيكون عبرة لغيره، فإن لم يتعظ ويعتبر السليم ابتلاه الله تعالى حيث أرسل له آية توقظه من غفلته فلم يستيقظ فيجعله الله وسيلة لإيقاظ غيره.

فقارون لما كثر ماله واغتر وتكبر، وتمت دعوته إلى الله تعالى وعرضت عليه مشاهد المتكبرين قبله لم يتعظ فأصبح هو عبرة لغيره، ففي كثرة ماله قال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) (القصص: 78)، وتأخر عنه الابتلاء فتمنى الناس أن يكون عندهم مثل قارون فقالوا: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ) (القصص: 79)، فلما خسف الله سبحانه به الأرض وكان هو العبرة لغيره تغيرت أماني الناس نحوه قائلين: (وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) (القصص: 82).

خامساً: محاسبة العبد لنفسه في الدنيا:

تقضي الابتلاءات بمراجعة العبد نفسه في أعماله أين الصالحات من أعماله وأين السيئات، فالصالحات تحتاج إلى زيادة، والسيئات تحتاج إلى نقصان، كما تحتاج النفس إلى أن تكتشف إلى أنها في حياة فانية يوماً ما، وأن البقاء الحقيقي في الآخرة، فأبو الدرداء يقول: تولدون للموت وتعمرون للخراب وتحرصون على ما يفنى وتذرون ما يبقى، ألا حبذا المكروهات الثلاث الفقر والمرض والموت(5).

فالابتلاءات الإلهية للعبد بمثابة محطات ومواقف لإعادة تقييم العبد لنفسه ولمسيرته في الدنيا، والطبع البشري يحتاج إلى من يزلزل كيانه الفطري من حين لآخر أو يهزه هزاً ثقيلاً حتى لا ينسى ما خلق له ولا ينشغل بالمستقبل الذي لا بد من الوصول إليه.

ولهذا بذل الصالحون جهودهم نحو محاسبة أنفسهم بل عاقبوها حتى لا تعود لاقتراف المعاصي أو تبتعد عن الطاعات، ‌فالمسلم إذا ‌حاسب ‌نفسه فرأى منها تقصيراً، أو فعلت شيئاً من المعاصي فلا ينبغي أن يمهلها، فإنه يسهل عليه حينئذ مفارقة الذنوب ويعسر عليه فطامها، بل ينبغي أن يعاقبها عقوبة مباحة كما يعاقب أهله وولده.

وكما روى عن عمر رضي الله عنه: أنه خرج إلى حائط له، ثم رجع وقد صلى الناس العصر، فقال: إنما خرجت إلى حائطي، ورجعت وقد صلى الناس العصر، حائطي صدقة على المساكين، قال الليث: إنما فاتته الجماعة، وروينا عنه أنه شغله أمر عن المغرب حتى طلع نجمان، فلما صلاها أعتق رقبتين، وحُكي أن تميم الداري نام ليلة لم يقم يتهجد فيها حتى أصبح، فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع، ومرَّ حسان بن سنان بغرفة فقال: متى بنيت هذه؟ ثم أقبل على نفسه فقال: تسألين عما لا يعنيك! لأعاقبنك بصوم سنة، فصامها(6).

سادساً: مغفرة ذنوب العبد في الدنيا:

فالله تعالى حين يبتلي عبده ببلاء، إنما يريد محو خطيئاته وتكفير سيئاته ولو بهَم أزعجه أو غم أقلقه أو شوكة شاكته أو مصاب نزل به أو وصب تعرض له، ففي البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه».

وعند الحاكم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة»، فلو علم المؤمن فضائل الله تعالى عليه بالبلاء واصطفائه به في الدنيا ما تمنى أن يرتفع البلاء عنه.




________________

(1) تفسير ابن كثير (5/ 185).

(2) إحياء علوم الدين: الغزالي (3/ 343).

(3) المفردات: الراغب الأصفهاني، ص 145.

(4) الزهد: ابن المبارك، ص 182.

(5) تاريخ دمشق: ابن عساكر (47/ 163).

(6) مختصر منهاج القاصدين: ابن قدامة، ص 344.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة