إعمار غزة جهاد جديد.. من ميادين المقاومة إلى ميادين البناء

بشير عبداللطيف

16 أكتوبر 2025

150

ما إن تنقشع غمامة العدوان حتى تشرق شمس جديدة على غزة الصامدة، تُعلن أن الحياة لا تنكسر، وأن العزيمة لا تموت، فبعد أن سطّر المقاومون أروع صور البطولة في ميادين الجهاد والمقاومة، يفتح الله أمام الأمة ميداناً آخر لا يقل شرفاً ولا ثواباً؛ إنه ميدان الإعمار والبناء.

هذا الميدان الجديد امتداد طبيعي للجهاد؛ لأن الجهاد لا ينتهي بانتهاء المعركة، بل يتجدد ما دام في الأمة من يحمل همّ النهضة والعمران؛ قال الله تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61)؛ أي طلب منكم عمارتها، لتكون الأرض ميداناً للخير والبذل، لا للخراب واليأس.

الإعمار جهاد في سبيل الله

إن الجهاد في سبيل الله لا يقتصر على حمل السلاح ومواجهة العدو فحسب، بل يشمل كل سعي يُبذل في نصرة الدين ورفع الظلم وإحياء الأرض، ومن هنا، فإن إعادة إعمار غزة بعد العدوان جهاد من نوع آخر، يُجاهد فيه المؤمنون بأموالهم وجهودهم، كما جاهد إخوانهم من قبل بأرواحهم وسلاحهم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته» (رواه البخاري)، فمن أعان على بناء بيت لأسرة دُمّر منزلها، أو ساهم في إعادة مدرسة أو مستشفى؛ فقد نال شرف الجهاد والإحسان معاً.

إن إعمار ما دمّره العدو ليس مجرد عمل إنساني، بل هو ردّ عملي على الاحتلال، وإعلان بأننا نملك القدرة على النهوض مهما بلغت الجراح.

من ميادين المقاومة إلى ميادين البناء

لقد كانت ميادين المقاومة عنواناً للصبر والثبات، واليوم أصبحت ميادين الإعمار عنواناً للعزيمة والإرادة.

فكما صمد المقاومون تحت القصف، يصمد البناؤون اليوم تحت وطأة الركام، يحملون المعاول بدل البنادق، يبنون من الحجارة المهشّمة ما يثبت أن الروح أقوى من الحديد والنار.

إن من يرصف طريقاً، أو يعيد فتح مسجد تهدّم، أو يزرع شجرة في أرض محروقة، هو مجاهد في سبيل الله؛ لأن الجهاد لا يتوقف عند حدّ القتال، بل يتجدد مع كل عمل يراد به وجه الله ونفع عباده؛ قال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: 105)؛ إنها دعوة ربانية للمضيّ قدماً في ميادين العمل، فالإعمار عبادة، والبناء صدقة، والنهضة طاعة.

إعمار غزة مسؤولية الأمة

إن غزة التي دافعت عن كرامة الأمة، تستحق أن تقف الأمة اليوم إلى جانبها، فالإعمار ليس واجباً محلياً يخص أهل القطاع وحدهم، وإنما هو واجب شرعي على الأمة كلها، لأنه من باب التعاون على البر والتقوى؛ قال الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ) (المائدة: 2).

فمن شارك في إعمار غزة بماله أو علمه أو دعائه أو فكره؛ فهو شريك في هذا الجهاد المبارك؛ ولذلك كان لزاماً على الدول والشعوب والمؤسسات الإسلامية أن تجعل من الإعمار مشروعاً جماعياً يعيد الحياة والأمل إلى أرض الرباط، فالإعمار اليوم امتحان صدق للأمة، كما كانت المقاومة بالأمس امتحان شجاعة.

الإعمار قيمة إيمانية وحضارية

إن الله تعالى جعل الإعمار من صفات عباده الصالحين، فقال: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (التوبة: 18)، فالإعمار ليس بناء حجر فوق حجر، وإنما هو بناء إيمان فوق إيمان، وبناء قيم تُعيد للإنسان كرامته؛ لذلك، فإن أول ما ينبغي أن يُعمر هو الإنسان نفسه؛ عقله وروحه وأخلاقه، قبل أن تُعمر الجدران، فالبناء الحقيقي يبدأ من تربية الجيل على حبّ العمل، والإتقان، والإخلاص، لتكون غزة نموذجاً للعمران القائم على الإيمان، لا على المظاهر المادية.

التحديات والفرص

قد يبدو طريق الإعمار طويلاً مليئاً بالعقبات، من حصار وقيود اقتصادية ونقص في الموارد، لكن هذه العقبات ليست جديدة على شعب تعلّم أن يصنع من الحجارة معاقل ومن الرماد حياة، فغزة اليوم تملك من الإرادة والوعي ما يجعلها قادرة على أن تحوّل الألم إلى أمل، والدمار إلى عمران، والمعاناة إلى مشروع نهضة.

والله سبحانه وعد عباده الصادقين بالنصر والتمكين، فقال: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40)، ومن نصر الله في ساحات الجهاد، سينصره الله في ساحات الإعمار.

الإعمار وعد الإيمان

الإعمار بعد الحرب ليس نهاية المعركة، بل هو بدايتها الجديدة، فمن دماء الشهداء تُولد الحضارات، ومن أنقاض البيوت تخرج قوافل الأمل، وإن الأمة التي تحسن القتال، ثم تُحسن البناء؛ أمة حية لا تموت، تعرف أن الجهاد لا يُختصر في الرصاصة، بل يمتدّ إلى المحراث والمطرقة والكتاب.

وغزة اليوم تقول للعالم: إنّا باقون ما بقيت الحياة، سنزرع مكان القذيفة وردة، وسنُقيم على الركام مسجداً ومدرسة، وسنُعيد إعمار الأرض كما أعاد الله إحياء القلوب بالإيمان، فالإعمار جهاد جديد، لا يُسفك فيه الدم، بل تُبذل فيه الهمم، وهو وعد من الله بأن تكون غزة رمزاً للحياة كما كانت رمزاً للصمود.


اقرأ أيضاً:

إعمار غزة.. 7 حقائق من منهج الرباط

وقف الطوارئ لإعادة إعمار غزة.. الوقف المطلق كأداة تمويل مستدامة ومرنة

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة