المحن مقدمات الفرج.. ولكل شدة مدة

فتن كقطع الليل المظلم، وكأنها تلك التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا» (رواه مسلم).

وها هي اليوم تواجهنا محن شديدة، وشدائد قد تكون غير مسبوقة، وها هي فلسطين تدفع ثمناً باهظاً من الدماء والأرواح والاستقرار والأمان، ويدفع أطفالها حياتهم جوعى، وتترمل نساؤها وتثكل على مدار الساعة دون صريخ لهم أو منقذ، وغيرها من بلاد المسلمين التي ما زالت تنزف.

محن تتوالى، ويتساءل الكثيرون: إلى متى هذه المعاناة؟ إلى متى هذا الوهن؟ إلى متى تتوالى هذه المحن؟!

سنن الله في المحن والابتلاءات

من سنن الله تعالى أن يختبر عباده ليثبت لهم الصادق من الكاذب في إيمانه، فيقول تعالى: (الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت).

وعن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه» (أخرجه البخاري).

والمسلم الصابر مأجور على صبره وثباته وصدقه مع ربه، والفرج مقرون بالابتلاء، حيث يقول تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً {5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح)، فقد جعل الله عز وجل مع كل عسر يسرين، ومع الشدة الفرج، وعلى المسلم أن يتمسك بإيمانه منتظراً فرج الله مع العمل على رفع البلاء والخلاص منه حتى ولو بالهجرة وترك أرض الظلم، مصحوباً بوعد الله عز وجل: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) (النساء: 100).

متى تنتهي المحن ويتنزل النصر؟

وبما أن الشدائد سُنة من سنن الحياة، فنهايتها أيضاً سُنة من سنن الله، وذلك مما يجدد الأمل والطمأنينة في نفوس المسلمين، فمن خصائص الشدة والمحنة:

- أنها ليست دائمة، فإن هي إلا فترة اختبار وتنتهي.

- أنها اختبار من الله، مأجور من يتجاوزها ودينه آمن في قلبه، وهي اختبار للتمايز ورفع درجات المؤمنين الثابتين، فيقول تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ).

- أن الابتلاء من علامات حب الله للعبد وعلى قدر إيمانه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم» (رواه الترمذي).

- أن الأمور في الدنيا متقلبة، فليس بعد الشدة إلا الفرج من الله، فيقول تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا) (يوسف: 110).

- أن الفرج قرين الصبر، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً» (رواه أحمد، والترمذي).

مواقف المؤمنين مع كل شدة

ويجب أن يتعلم المؤمن من تاريخ السابقين من الأنبياء والصحابة والتابعين والصالحين في كل زمن، حيث يقول الله تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف: 110).

وباستعراض طريق الحق منذ عهد آدم إلى يومنا هذا، فلن نجد أبداً أن هناك حقاً انتصر على طريق مفروش بالورود، وإنما يحتاج الحق لرجال على استعداد لبذل النفس قبل المال والوقت، وأن المعارك الكبرى قد تذهب بعقول الرجال، فيقول تعالى في محنة غزوة «الأحزاب»: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا {10} هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) (الأحزاب)، محنة شديدة أحاطت بأهل الإيمان في المدينة، حيث حاصروا المدينة وفيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، لكن المؤمنون كان لهم موقف الثبات وتصديق موعود الله تعالى، فكان ردهم وسط المحنة: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) (الأحزاب: 22).

فكان تدخل الله عز وجل في المقابل: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) (الأحزاب: 25)، وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214).

الاختبار قائم إلى يوم الدين

والاختبار قائم للمسلمين كأمة، وللمسلمين كأفراد إلى يوم الدين، قائم بالهزائم والمحن والشدائد، وقائم في ملاقاتهم لتلك المحن وبذل الجهد لخروجهم منها وتجاوزهم لها، وقائم في تبليغهم لكلمة الله وحملهم الأمانة بقوة والسير بها في الحياة لهداية الناس، قائم بقيامهم بنصرة المستضعفين وتأييدهم ودعمهم وإغاثتهم.

فالمسلمون في اختبار مستمر حتى في نصرهم وعزتهم ورفعتهم، يقول تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ {173}‏ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ {174} إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران).

الشدة تستلزم الصبر مع العمل على إزالتها

والمسلم أمام المحن ليس سلبياً، يكتفي بانتظار الفرج بينما يسلم نفسه للهموم معتقداً أن سنن الله المفروضة عليهم تستلزم السكون والسكوت أمامها، وإنما عليه أن يتبع كافة الطرق المشروعة لرفع الظلم عن نفسه، وتقويتها، وإعدادها ليوم تكون له الريادة وعدم الاستسلام والتخاذل أمامها.

عليه أن يعمل، ويربي جيلاً جديداً يتحمل أعباء دعوته وتكاليف دينه بثقة في نصر الله الآتي حتماً، متعاوناً مع إخوانه في نصرة الحق وأهله، مستحضراً قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تَرَى المُؤْمِنِينَ في تَراحُمِهِمْ وتَوادِّهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إذا اشْتَكَى عُضْوًا تَداعَى له سائِرُ جَسَدِهِ بالسَّهَرِ والحُمَّى» (رواه البخاري).

فلتنفض الأمة عن كالها الكسل والضعف واليأس، وتستعصم بحبل ربها المتين، ولا تخضع لإملاءات الشيطان، فالحق منتصر طالما كان خلفه رجال يحملونه.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة