الغثائية والوهن.. التشخيص النبوي لاستضعاف الأمة واستباحتها

د. رمضان فوزي

02 أكتوبر 2025

46

تعيش الأمة الآن حالة من الضعف والاستضعاف لا تخفى على ذي عينين، جرأت أراذل الناس عليها من كل حدب وصوب، بصورة قد تصيب بعض أبناء الأمة بالإحباط، بل والشك الذي قد يفضي ببعض المتسرعين والمتذبذبين إلى الإلحاد والعياذ بالله.

فهل هذه الحالة من الضعف بسبب خطأ في المنهج أو الرسالة، أم نتيجة حتمية لبعض سلوكيات الأمة؟

نجد الإجابة عن التساؤل في حديث ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا»، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً ‌كَغُثَاءِ ‌السَّيْلِ؛ تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ»، قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْت»، وفي رواية أخرى لأبي هريرة: «حُبُّكُمُ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَتُكُمُ الْقِتَالَ» (رواه أحمد في مسنده).

لا شك أن من يُمعن النظر في هذا الحديث الشريف يُهيأ له أنه يصف حال الأمة في المرحلة التي نعيش فيها الآن؛ فها هم أراذل الناس يتداعون علينا من كل حدب وصوب.

وقد برزت براعة التصوير النبوي لهذه الحالة من خلال اختيار الألفاظ والصور الفنية والبديعية في هذا الحديث على النحو التالي:

المفردات اللغوية الموحية

  • يوشك: فعل من أفعال المقاربة التي تدل على قرب وقوع الفعل، وسياقه هنا يفيد التحذير والتنبيه لخطورة ما سيحدث.
  • تداعى: فعل يفيد المشاركة؛ أي تشاركت الأمم في هذه الدعوة، وقد حذفت منه التاء للدلالة على سرعة هذا التداعي؛ فأصل الفعل: تتداعى.
  • الأكلة: جاء على صيغة جمع التكسير –التي تتناسب مع غير العاقل- ولم يأت على صيغة جمع المذكر السالم (الآكلون) ليوحي بحالة من النهم والجشع واختبار أبشع الطرق في الأكل.
  • على قصعتها: القصعة هي إناء الطعام الذي يجتمع عليه الآكلون، وفيها دلالة على حالة التكالب والتجمع حول الطعام المأكول، واستخدام حرف الجر «على» هنا -وليس «إلى» الذي يناسب التداعي- يفيد حالة الاستعلاء والتجبر والتكبر لهؤلاء المتداعين؛ وهو ما تتجلى مظاهره في حالة الإملاءات السياسية والتبعية الاقتصادية دون أدنى اعتبار لسيادة الأمة واستقلالها.
  • كغثاء السيل: تعبير مركب يدل على الكثرة العددية التي تحمل قيمة نوعية أو قوة ذاتية.

روعة التصوير الفني

تبدو براعة التصوير الفني من خلال التشبيهات التي استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم ليرسم لوحة فنية رائعة معبرة عن الواقع؛ حيث المسلمون في مركز الدائرة والأمم تأتيهم من كل ناحية من محيطها، وذلك من خلال ما يلي:

أولاً: التشبيه التمثيلي البديع في قوله صلى الله عليه وسلم: «كما تداعى الأكلة على قصعتها»:

  • فالمشبه: صورة الأمم المجتمعة على المسلمين.
  • المشبه به: الأكلة المجتمعون على القصعة للأكل.
  • وجه الشبه: التجمع والتداعي والتسارع للحصول على شيء لا يملكونه.

هذا التشبيه الحسي يحمل تحذيراً من خلال تصوير المستقبل الغيبي بصورة مادية مُدركة ترسخ المعنى في الذهن، وتجعل الخطر ملموسًا، وتوحي بالاستباحة والاستخفاف بالمسلمين، وأنهم أصبحوا كطعام سهل المنال لا حُرمة له.

ثانياً: التشبيه المفصل في قوله صلى الله عليه وسلم: «وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً ‌كَغُثَاءِ ‌السَّيْلِ»:

  • فالصورة المشبهة: الأمة كثيرة العدد قليلة العدة والقيمة.
  • والصورة المشبه بها: غثاء السيل وهو يطفو فوق المياه دون تأثير.
  • وجه الشبه: انعدام التأثير والقيمة والإصابة بالوهن والضعف.

فهذا التشبيه يعد تفسيراً وسبباً للتشبيه الأول؛ فهو مقدمة له وشرط لحدوثه؛ فالغثائية مقدمة للاستضعاف والتداعي.

ثالثاً: استخدام الفعل المبني للمجهول في قوله: «تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ»:

فيه توجيه إلى التركيز على النتيجة لحتمية وقوعها وهي انتزاع المهابة، بغض النظر عن الفاعل، وقد يكون فيه إماءة إلى مسؤولية الأمة واشتراكها في هذا الأمر بسبب حالة الغثائية التي تصيبها.

رابعاً: المقابلة في قوله صلى الله عليه وسلم: «حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْت» وفي رواية أخرى قد تكون أكثر تعبيراً عن الواقع وتصوير له: «حُبُّكُمُ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَتُكُمُ الْقِتَالَ»:

فهذا نقيضان متلازمان إذا حدث أولهما ترتب عليه الثاني؛ فحب الدنيا نقيض لحب الموت أو القتال.

ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ؛ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» (صححه الألباني في صحيح أبي داود).

إن ما تعانيه الأمة الآن ليس ضعفًا في العدد أو الإمكانات؛ بل ضعف في الإرادة الموحدة، والقيادة الرشيدة، والإنتاج الحضاري، والتأثير السياسي الفاعل، هذه الكثرة الكاثرة تُصبح عالة على نفسها أو متفرقة لا يجمعها هدف؛ فكأن وجودها وعدمها سواء أمام التحديات.

فالطريق إلى نزع الذل ليس في زيادة العدد، بل في استئصال الوهن من القلب والرجوع إلى حقيقة المنهج وقوته وعزته.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة