قصة عمر بن عبد العزيز في مرض النهاية .. وصية مودع

محرر سحر البيان

15 نوفمبر 2025

198

ذكر أبو المقدام هشام بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز في مرضه الذي مات فيه، فجعلت أحدُّ النظرَ إليه.

فقال لي: يا ابن كعب، ما لك تحد النظر إلي؟

قلت: لِمَا نَحَلَ من جسمك، ‌وتغيَّر ‌من ‌لونك.

قال (عمر بن عبد العزيز): فكيف لو رأيتني بعد ثالثةٍ في قبري، وقد سالت حدقتاي على وجنتي، وابتدر فمي وأنفي صديدًا ودودًا، كنت والله أشدَّ نُكْرَةً لي. 

ودخل مسلمة بن عبد الملك على عمر في مرضه الذي قبض فيه، فقال: "إنك قد أفغرت ولدك من هذا المال، وتركتهم عالة لا مال لهم، وأنهم لا بدّ لهم مما يصلحهم فأوص بهم إليّ وإلى نظرائي من أهل بيتك نكفك مئونتهم".

فقال عمر: أجلسوني.

فأُجلس.

فقال: يا مسلمة بن عبد الملك، أمَّا ما ذكرت أني قد أفغرت أفواه ولدي من هذا المال فتركتهم عالة لا مال لهم، فلم أمنعهم حقَّا هو لهم، ولست معطيهم حقّ غيرهم؛ وأما ما سألت من الوصاة بهم إليك وإلى نظرائك من أهل بيتي فإن وصيّي فيهم ووليّي الله الذي نزَّل الكتاب، وهو يتولّى الصالحين.

يا مسلمة بن عبد الملك، إنما بنو عمر أحد رجلين، إما رجل اتّقى الله فسيرزقه حتى يقبضه إليه، وإما رجل غدر وفجر فوالله لا يكون عمر أول من قوّاه على معصية الله، ادع لي بَنِيَّ.

فدعوهم، وهم يومئذ اثنا عشر رجلا.

فجعل يُصعِّد بصره فيهم، ويصوّبه حتى اغرورقت عيناه، ثم قال: "هذا يزعم أني تركتكم عالة لا مال لكم، بل تركتكم من الله بخير، إنكم لا تمرّون بامرئ مسلم ولا مُعَاهَد إلَّا ولكم عليه حقٌّ واجب، يا بَنِيَّ، إني ميَّلت رأيي في الدنيا بين أن تفتقروا في الدنيا وبين أن أدخل الجنة، أو تستغنوا في الدنيا وبين أن أدخل النار، فكان أن تفتقروا في الدنيا إلى آخر يوم من الدنيا أحبَّ إليَّ من دخول النار طرفة عين، قوموا عصمكم الله، ورزقكم.

ومسلمة يسمع.


فوائد وعبر

القصة تبرز جملة من القيم الدينية العميقة، وأهمها:

أولًا: التذكير بحقيقة الموت وفناء الجسد

• عندما قال عمر: كيف لو رأيتني بعد ثالثة... فهو يذكّر بأن الموت يزيل العظمة والمظاهر، وأن الجسد الذي يُعجَب به الناس سرعان ما يعود ترابًا.

• في هذا تعميق لمعنى قوله تعالى:

﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ و ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾.

• الدرس: الزهد في المظاهر، والاستعداد للقاء الله، وتذكير النفس بحقيقتها الترابية.

ثانيًا: محاسبة النفس والاستعداد للآخرة

• يظهر من كلام عمر أنه يعيش لحظات الصدق مع الله؛ لا ينشغل بملكٍ أو جاه، بل بما ينتظره في القبر.

• الدرس: المؤمن الحقيقي يستيقظ قلبه عند المرض والشدّة، فيراجع أعماله ويستعد للرحيل.

ثالثًا: الورع الشديد والابتعاد عن المال الحرام

• رفض عمر أن يعطي أبناءه مالًا ليس لهم، مع أنهم أبناء خليفة.

• الدرس: حفظ المال العام أمانة، وأكله ظلم، ولا مبرر للتعدّي عليه بحجة القرابة أو السلطة.

• هذا يوافق قول النبي ﷺ: «أَدِّ الأمانةَ إلى مَنِ ائتَمَنَكَ».

رابعًا: التوكل الحقيقي على الله

• حين قال: وصيّي ووليّي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين.  أعطى درسًا إيمانيًّا خالصًا بأن الله هو الكافل، وهو أرحم بالأبناء من أبيهم.

• الدرس: أعظم ضمان للمستقبل هو صلاح الوالد وصدق توكّله على الله، لا كثرة الأموال.

خامسًا: التربية الإيمانية للأبناء

• عمر يعلّم أبناءه أن القيمة في الدين لا في المال، وأن حقّهم على الناس محفوظ لأنهم مسلمون، لا لأنهم أبناء خليفة.

• الدرس: تنشئة الأبناء على الكرامة، والعدل، وألا يأخذوا ما ليس لهم.

سادسًا: الخوف من أن يكون الأب سببًا في معصية أولاده

• قال: لا يكون عمر أول من قوّاه على معصية الله.

• الدرس: على الآباء أن يحذروا من فتح أبواب الحرام لأولادهم، أو إعانتهم على الظلم، أو إعطائهم المال بلا حق.

• وهذا من أعظم صور الورع والفطرة السليمة.

سابعًا: اختيار الآخرة على الدنيا

• حين خيّر نفسه بين أن يفتقر أبناؤه وبين أن يدخل النار، اختار الآخرة لهم وله.

• الدرس: هذا يرسّخ معنى قوله تعالى:

﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾.

• أن الفقر في الدنيا ـ إن وقع ـ أهون ألف مرة من عذاب الآخرة ولو لطرفة عين.

ثامنًا: الرضا بقضاء الله والصبر على البلاء

• عمر في مرض الموت، ومع ذلك لا يشتكي ولا يتضجر، بل يتكلم بحكمة وطمأنينة.

• الدرس: جمال الصبر في لحظات الشدّة، وأن المؤمن حين يقترب من الله تسكن روحه.

تاسعًا: رسالة للخلفاء والحكام

• في موقف مسلمة بن عبد الملك درس عظيم:

أن الحاكم الراشد يحفظ المال العام، ولا يجعل السلطة ميراثًا للأبناء، بل أمانة يحاسَب عليها.

• الدرس: العدل أهم من النسب والسلطة.

خلاصة العبر

هذه القصة تختصر مدرسة عمر بن عبد العزيز في كلمات قليلة: زهدٌ، وعدلٌ، وخوفٌ من الله، وتوكلٌ عليه، وورعٌ في المال، وتربيةٌ صادقة، واستعدادٌ للآخرة.

اقرأ أيضًا

من الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز .. الإمام العادل

دوام التذكير باليوم الآخر

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة