استيطان يتمدد ومقاومة تتجذر (3)

كيف ساهم اتفاق أوسلو في مضاعفة المستوطنات الصهيونية؟

يُعتبر «اتفاق أوسلو» الموقع بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيونية عام 1993م إحدى أبرز المحطات في مسار الصراع الفلسطيني- «الإسرائيلي»، وقد جاء الاتفاق محمّلًا بآمال دولية ومحلية لإيجاد حل دائم يقوم على أساس الدولتين.

غير أن المتتبع للتطورات على الأرض وبالأخص في ملف الاستيطان، يجد مفارقة كبيرة بين النصوص والواقع، ففي الوقت الذي كان من المفترض أن يؤدي الاتفاق إلى الحد من التوسع الاستيطاني حدث العكس تمامًا، إذ شهدت الضفة الغربية تضاعفًا ملحوظًا في عدد المستوطنين والبؤر الاستيطانية.

هذا المقال يحاول تحليل كيف ساهم اتفاق أوسلو في مضاعفة المستوطنات «الإسرائيلية» في الضفة الغربية.

أولًا: بنية اتفاق أوسلو وثغراته الجوهرية:

يستند اتفاق أوسلو إلى مبدأ «الأرض مقابل السلام»، ويقضي بمرحلة انتقالية مدتها 5 سنوات تُفضي إلى مفاوضات الوضع النهائي خلال هذه المرحلة، اتفق الطرفان الفلسطيني و«الإسرائيلي» على تجميد الأوضاع الميدانية، بما في ذلك الامتناع عن إجراءات أحادية الجانب قد تؤثر على نتائج المفاوضات مثل بناء مستوطنات جديدة، لكن الاتفاق لم ينص صراحة على وقف النشاط الاستيطاني؛ ما ترك ثغرة قانونية استغلتها «إسرائيل» لتوسيع مستوطناتها تحت ذريعة النمو الطبيعي.

هذا الغموض في النص القانوني سمح للاحتلال «الإسرائيلي» بالمناورة والاستفادة القصوى من المرحلة الانتقالية لبناء حقائق جديدة على الأرض، كما أن الاتفاق جزّأ الضفة الغربية إلى مناطق (A، B، C)، ما منح الاحتلال السيطرة الكاملة على نحو 60% من الأراضي (المنطقة C)، وهي ذات الأراضي التي استهدفتها أنشطة الاستيطان.

ثانيًا: تصاعد وتيرة الاستيطان بعد أوسلو بالأرقام:

تشير الأرقام الرسمية إلى أن عدد المستوطنين في الضفة الغربية عام 1993م عند توقيع الاتفاق كان حوالي 95 ألف مستوطن، أما اليوم، فقد تجاوز العدد 900 ألف؛ أي أنه تضاعف ما يقرب من 10 أضعاف مما كان عليه، وفي القدس الشرقية وحدها ارتفع عدد المستوطنين إلى أكثر من 230 ألفًا، وهذا يعكس تحول الاتفاق إلى أداة لتوسيع المشروع الاستيطاني لا لتجميده.

المفارقة أن معظم هذا النمو وقع خلال سنوات المفاوضات التي كان من المفترض أن تفضي إلى حل دائم، ما يدلل على أن الاحتلال كان يعمل على الأرض بسياسة مغايرة تمامًا لما كانت تروج له دبلوماسيًا.

ثالثًا: أوسلو كغطاء سياسي دولي للاستيطان:

يُعدّ اتفاق أوسلو من الناحية السياسية «شرعنة» ضمنية للتواجد «الإسرائيلي» في الضفة الغربية، فبموجب الاتفاق اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بدولة الاحتلال دون أن تحصل بالمقابل على اعتراف بدولة فلسطينية، وبما أن الاتفاق لم يتضمن أي التزام قانوني واضح يلزم «إسرائيل» بوقف الاستيطان، فقد استُخدم كغطاء سياسي أمام المجتمع الدولي لتبرير أنشطة التوسع.

في هذا السياق، اكتسبت دولة الاحتلال شرعية تفاوضية ساعدتها على ترويج صورتها كطرف راغب في السلام، بينما كانت على الأرض تمارس سياسة ممنهجة للضم الزاحف عبر البناء الاستيطاني، وشق الطرق الالتفافية، وعزل التجمعات السكانية الفلسطينية.

رابعًا: أثر الاستيطان على فرص السلام وحل الدولتين:

أدى التوسع الاستيطاني إلى إضعاف قدرة أي كيان فلسطيني قادم على البقاء أو التوسع، فالضفة الغربية اليوم مقطعة الأوصال، معزولة عن القدس، وتخترقها شبكات مستوطنات وجدار فاصل وبنية تحتية مخصصة فقط لـ«الإسرائيليين»، هذا الواقع الميداني أفرغ حل الدولتين من مضمونه، إذ لم يعد هناك مجال لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.

وقد أكدت تقارير أممية عديدة أن الاستيطان «الإسرائيلي» يُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، ويشكل عقبة رئيسة أمام أي عملية السلام، ومن اللافت أن استمرار النشاط الاستيطاني بعد أوسلو زاد من حدة التشكيك الشعبي في جدوى المفاوضات لدى الفلسطينيين؛ ما أدى إلى تراجع الدعم الشعبي لاتفاق أوسلو وتصاعد كبير في شعبية حركات المقاومة.

خامسًا: دور المجتمع الدولي وتقاعسه:

على الرغم من الإدانات المتكررة للاستيطان من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإن المجتمع الدولي لم يتخذ خطوات عملية حاسمة للضغط على «إسرائيل» من أجل وقف هذا النشاط، وظل الخطاب الدولي يراوح مكانه بين «القلق العميق» و«الدعوات للتهدئة»؛ ما منح «إسرائيل» حرية شبه مطلقة في تنفيذ مشاريعها التوسعية دون رادع.

الولايات المتحدة وزيادة الاستيطان.. هل هي شراكة أم ازدواجية؟

مع اقتراب عدد المستوطنين «الإسرائيليين» في الضفة الغربية والقدس الشرقية من المليون، تتصاعد التساؤلات حول موقف الولايات المتحدة من هذه الظاهرة، خاصة في ظل تصريحاتها العلنية بدعم حل الدولتين، فالبرغم من الإعلانات الأمريكية المتكررة التي تصف الاستيطان بأنه عقبة أمام السلام، تشير الوقائع على الأرض إلى أن واشنطن لم تُمارس ضغوطًا للحد من توسع المستوطنات، بل في كثير من الأحيان تأتي المساعدات العسكرية والدبلوماسية لـ«إسرائيل» في أوج فترات التوسع الاستيطاني؛ ما يعكس نوعًا من الازدواجية السياسية.

علميًا، تشير الدراسات إلى أن الاستيطان لا يُمثل فقط توسعًا جغرافيًا، بل هو أداة لإعادة تشكيل الديموغرافيا والسيطرة على الموارد، خصوصًا في المناطق المصنفة «ج» بالضفة الغربية، هذه السياسة أدت إلى تقليص المساحات المتاحة للفلسطينيين وأنهت عملياً «حل الدولتين» من الأساس.

الموقف الأمريكي من الاستيطان دوماً كان محكومًا بحسابات إستراتيجية وتحالفات إقليمية، وليس بمبادئ القانون الدولي أو حقوق الإنسان، لذا فان أكذوبة عملية السلام كانت مجرد وهم سياسي بعيد عن الواقع في ظل إدارات جمهورية ساهم في تعميق الانحياز، وتجاهل التحذيرات من خطورة الوضع الميداني على فرص السلام.

يُظهر الواقع أن «اتفاق أوسلو»، بدلًا من أن يكون بوابة للسلام، تحول إلى أداة لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للضفة الغربية بما يخدم المصالح «الإسرائيلية» من خلال ثغراته القانونية، وتجزيئه الجغرافي، وتغاضي المجتمع الدولي، لذلك أصبح الاتفاق غطاءً مثاليًا لمضاعفة المستوطنات، فالاستيطان ليس مجرد إجراء عمراني، بل هو مشروع إستراتيجي سعى لتقويض إمكانية نشوء دولة فلسطينية.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة