«كاتم السر».. لماذا خُصَّ حذيفة بن اليمان بأسماء المنافقين؟

تكمن عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم في
اكتشافه لمهارات جميع أصحابه والقبائل من حوله، وتجلّت هذه العبقرية في توظيف
المهارات وما يتمتع به كل واحد منهم وما يمتلكه من لياقات تميزه عن غيره، وأن
المجتمع الناجح يكمن في توظيف التنوع، وأن المناصب موكولة للأليق والأصل حلها.
فحياة النبي صلى الله عليه وسلم تسعفنا
بالعديد من النماذج التي تستحق الوقوف معها ومع قدراتها ولياقاتها البدنية
والنفسية.
وتأتي شخصية الصحابي حذيفة بن اليمان
نموذجاً فريداً في تاريخ عصر الرسالة، الذي خُصّ من قبل النبي عليه السلام بأكبر
سر في تاريخ الدولة؛ وهو معرفة قائمة المنافقين وكل بؤر القلق في دولة المدينة.
في هذا المقال، نكشف عن طبيعة هذه
الشخصية الفذّة، وكيف اكتشف صلى الله عليه وسلم مهارته ولياقته وصار كاتماً لسره
دون غيره.
تفكير خارج الصندوق
ما ميّز الصحابي حذيفة بن اليمان أنه كان
صاحب تفكير نوعي، ولذلك نقل لنا في أسئلته للنبي صلى الله عليه وسلم أموراً
استباقية واستشرافاً لكوائن وأحداث المستقبل.
وقد تميز بحس استباقي وطريقة تفكير خارج
الصندوق، حيث كان من الطبيعي الإكثار بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال في
زيادة الخير والطرق المؤدية إليه، لكن طبيعة سؤال الصحابي حذيفة بن اليمان كشفت
لنا نمطاً آخر في التفكير، وهو ما روته كتب الأثر: «كان الناس يسألون رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني»(1).
فجوهر شخصيته أنه يتمتع بحس استباقي في
التفكير ميّزه عن غيره، وهو ما كان يعلمه صلى الله عليه وسلم وسبر غوره حسّاً
ومعنى في ميدان المعركة وخارجها في الحياة العامة.
نحن نعلم جيداً ما وقع للصحابة في غزوة «أُحد»،
ومدى الألم الذي لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأجل فراق أصحابه، لكن لا يفوتنا
الدور القيمي والتسامح الأسمى الذي ظهر من الصحابي حذيفة بن اليمان، حينما قُتل
والده بطريق الخطأ في ساحة معركة «أحد».
هذه الواقعة كشفت صفاء نفسه وتحييدها،
ففي الحقيقة وعند متابعة غزوة «أُحد» من أولها لآخرها نجد أن مقتل الصحابة عامة في
المعركة ومن بينهم والد الصحابي حذيفة بن اليمان جاء نتيجة خيانة المنافقين ورجوع
ثلث الجيش قبل المعركة وترك الباقي لمصيرهم المحتوم.
فكل خسارة في المعركة ترجع ابتداءً لهذه
الحركة غير المسبوقة من التخاذل والخيانة، ومع ذلك لم يرمِ الصحابي حذيفة المكلوم
جام غضبه عليهم في هذه اللحظة، وتمتع بلياقة واسعة كشفت عن بواكير شخصيته لدى
النبي صلى الله عليه وسلم.
كما لا يفوتنا أنه في اللحظة التي قتل
فيها والد حذيفة، تم اغتيال أحد الصحابة غيلة على يد آخر بدواعي العصبية، ولم يعلم
بهذه الواقعة إلا عن طريق الوحي، حيث أمر صلى الله عليه وسلم بالقاتل أن تضرب عنقه
على باب مسجد قباء عقب مرجعه من المعركة(2).
فقد كشفت غزوة «أُحد» عن أن حذيفة بن
اليمان شخصية نزيهة لا تسعى وراء عصبية أو مكسب دنيوي، وهو ما سقط فيه غيره حينما
واتته الفرصة.
مهمة استخباراتية معقدة
أكبر شهرة حازها الصحابي حذيفة بن اليمان
هو ما قام به في غزوة «الأحزاب»، حيث بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في مهمة
استخباراتية معقدة، ليأتيه بخبر القوم، وشدد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يُحدث
حدثاً دون إذنه، ورغم أنه أتته فرصة ذهبية أن يقتل قائد أركان جيش الأحزاب (أبو
سفيان)، لكنه تذكر ما أوصاه به صلى الله عليه وسلم: ولولا عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم إليّ: «لا تحدث شيئاً حتى تأتى»، ثم شئت، لقتلته(3).
إذن، فنحن أمام شخصية تمتلك ضبطاً
للأعصاب غير مسبوق، حتى لو كانت الفرصة المتاحة أمامها أيضاً غير مسبوقة.
أيضاً كشفت لنا الواقعة ما كان يتمتع به
من لياقات أخرى مميزة، وأهمها حسه الاستشرافي الذي كشفه في سؤاله عن الشر، فقد
تجلى أيضاً في ساحة الميدان، فحينما تسلل إلى صفوف العدو استطاع بحسه الاستباقي أن
يخدع أذكى رجلين، هما: عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، حيث كان أحدهما عن
يمينه والآخر عن شماله، وذلك عندما قال أبو سفيان: احذروا الجواسيس والعيون،
ولينظر كل رجل جليسه، قال: فالتفتُّ إلى عمرو بن العاص فقلت: من أنت؟ وهو عن يميني،
فقال: عمرو بن العاص، والتفت إلى معاوية بن أبي سفيان فقلت: من أنت؟ فقال: معاوية
بن أبي سفيان.
كل هذه المخايل النفسية أدت إلى أن يكون
حذيفة بن اليمان هو كاتم سر النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم في عودته من غزوة «تبوك» تعرض لمحاولة اغتيال على يد المنافقين، فعندما
أخذ حذيفة بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم عقب عملية الاغتيال جلس عندها حتى
قام النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه فقال: «من هذا؟»، قال: أنا حذيفة، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: «فإني مسرّ إليك أمراً فلا تذكرنه، إني نهيت أن أصلي على
فلان، وفلان، وفلان»، عدة من المنافقين، ولا يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذكرهم لأحد غير حذيفة.
فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم،
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته إذا مات رجل ممن يظن أنه من أولئك الرهط
أخذ بيد حذيفة فقاده إلى الصلاة عليه، فإن مشى معه حذيفة صلى عليه عمر، وإن انتزع
يده وأبى أن يمشي انصرف معه(4).
تساؤل أخير
ولكن يبقى السؤال: إذا كان النبي صلى
الله عليه وسلم لم يأمر بقتل أحد من المنافقين، خاصة أن عدداً من الصحابة طلبوا
منه أن يأمرهم بقتلهم منهم الفاروق عمر في أكثر من واقعة، والصحابي أسيد بن الحضير
عقب محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم في رجوعه من «تبوك»، قال: يا رسول
الله، قد اجتمع الناس ونزلوا، فمر كل بطن أن يقتل الرجل الذي همّ بهذا، فيكون
الرجل من عشيرته هو الذي يقتله، وإن أحببت- والذي بعثك بالحق- فنبئني بأسمائهم فلا
أبرح حتى آتيك برؤوسهم.
قال صلى الله عليه وسلم: «يا أسيد، إني
أكره أن يقول الناس: إن محمداً قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله تعالى بهم أقبل عليهم
يقتلهم»(5).
ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر
بقتلهم، أطلع حذيفة بن اليمان على أسمائهم لتبقى ورقة ضغط يخشى الخصم من كشفها
يوماً ما.
كما أنها تفتح له الطريق في العودة
والانضمام إلى صف عامة الناس، وهو ما سار عليه الصحابي حذيفة بن اليمان، فصار
كاتماً لسر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان وجوده وحضوره بهذا السر أداة ردع
للمثبطين والمرجفين حتى قويت الدولة وبسطت سلطانها على أكتاف أصحاب المهارات
واللياقات الفريدة التي كان ينتخبها النبي صلى الله عليه وسلم.
___________________
(1) جاء في الصحيحين (البخاري، ومسلم).
(2) الصالحي: سبل الهدى والرشاد.
(3) محمد بن عمر الواقدي: مغازي الواقدي.
(4) ابن عبد البر: الاستيعاب في معرفة
الأصحاب.
(5) الصالحي: مصدر سابق.