«الأقصى».. ذاكرة الحريق وامتحان الوفاء

علي إبراهيم

21 أغسطس 2025

822

روي عن بشر الحافي رحمه الله تعالى قولٌ عظيم الدلالة والأثر، فقد قيل له لم يفرح الصالحون ببيت المقدس؟، فقال: "لأنها تُذهب الهمّ ولا تستعلي النفس بها"، ومما قاله عنها كذلك: "ما بقي عندي من لذات الدنيا إلا أن أستلقي على جنبي تحت السماء بجامع بيت المقدس"، أي يستلقي مطمئنًا في المسجد الأقصى المبارك، لقد قال ذلك رحمه الله، وهو القادر على زيارة بيت المقدس، والصلاة في رحاب مسجدها، والقيام الليالي الطويلة، فكيف بنا ونحن البعيدون عنها، نتشوق إليها من بعيد، ونتوق لكل شيء فيها، من المشي في حاراتها، والصلاة في مساجدها، والاعتكاف في الأقصى، والتعبد في جنباته كلها.

بيت المقدس في وجدان السلف

سيسأل القارئ الكريم ولم هذا التعبد في كل جنبات المسجد، أحيلك إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عنْ رسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لَمَّا فَرَغَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليهما السّلام مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ [وفي رواية مسجد بيت المقدس]، سَأَلَ اللَّهَ صلّى الله عليه وسلّم ثَلَاثًا: أَنْ يُعْطِيَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لَأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّهُ لاَ يَأْتِي هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ). فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَمَّا اثنتان فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ). [رواه أحمد، والنّسائيّ، وابن ماجه]. وفي الحديث دلالة عظيمة على أجر الصلاة في الأقصى، وأنها مما دعا به سليمان عليه السلام رب العزة جلّ في علاه.

وفي سياق العبادة والانقطاع عن الناس في المسجد الأقصى، لقد زار الأقصى عدد كبير من الصحابة للعبادة فيه من بينهم معاذ بن جبل وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن محيريز، وأبي أمامة، وعقبة بن عامر الجهني، وأبو ريحانة الأزدي رضي الله عنهم، وأم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها، التي زارت بيت المقدس وصلت في المسجد الأقصى، وتعبدت في أماكن عدة، وغيرهم مما لا يتسع المجال لذكرهم في هذه التدوينة.

لنعرف قيمة ما فقدنا؟

لماذا هذه المقدمة الطويلة، والحديث عن أهمية المسجد ومكانته وموقعه، وتشوق العباد للصلاة في جنباته، وهو غيض من فيض لأنه عندما نعرف أهمية المفقود، نستشعر عظيم الرزء في الفقد، وعندما نتيقن حجم الخسارة تتعاظم في أعيننا، وها هي تمر في هذه الأيام ذكرى إحراق المسجد الأقصى، والتي تمثل جزءًا من خسارتنا للأقصى، فقد خسرنا الوصول إليه في عام 1967م، وخسرنا منبر نور الدين (المعروف بمنبر صلاح الدين) في عام 1969م، وتهددت المسجد خطر النيران حينذاك، ونخسر اليوم المسجد شيءً فشيئا، من خلال مخططات التهويد، والاعتداءات شبه اليومية، وما يحيكه المحتل وأذرعه بحق مسجدنا المبارك.

الإحراق.. جريمة متجددة

يتذكر الواحد منا هذه الفضائل، وتحضر في الوقت نفسه تلك المخاطر المحدثة، فتثور في النفس مشاعر مضطرمة، وتشتعل الأفكار التي لا حد لها، عن علاقتنا بهذا المسجد الأثير، وعن الحب الذي ينبت في قلوبنا وقلوب أجيالنا القادمة، عن تلك الأجيال التي يمكن أن تجعل المسجد في قلب حياتها، وعن المهام العظيمة التي علينا القيام بها، لنصرة القدس، والدفاع عن المسجد الأقصى، وعن تلك الإبادة الماضية في غزة، وعن الطوفان ومفاهيمه، ومن أطلقه دفاعًا عن القدس، ومن سيستلم راية الطوفان من بعد، فإن كان طوفانًا واحدًا، فقد خسرنا خسارة فادحة، فقد تركنا من جعل الأقصى عنوان المعركة، وإن استمرت أمواجه سنكون أمام واقع مغاير، نكون فيه حينها أقرب حقيقة إلى الأقصى، وإلى تحريره.

غزة.. الامتداد الآخر للحريق

ستة وخمسون عامًا مرت على جريمة إحراق المسجد الأقصى، وفي كل يوم تأكل الحرائق ما بقي من هذه المدينة، هي حرائق التهويد والاستيطان والسيطرة، وفي غزة حرائق القتل والقنابل والتجويع والتهجير، أنموذج الإحراق أصبح ثابتًا في فلسطين، أحرق الأطفال أحياء، ومن ثمّ أحرقت العوائل في بيوتها، وها هي غزة تُحرق وسط صمتٍ مريب، من القاصي والداني، تتلاحق هذه الأعوام ومرتكب الجرائم يطوف العالم يتحدث عن الأخلاق والمسؤولية، ومواجهة الإرهاب، والضحايا يبحثون عن كفاف قوتهم، لقد أطفئت نيران الحريق، ولكن الأقصى لم يعد هو نفسه، ولم نعد نحن كذلك، يقبع هو فريسة المنظمات المتطرفة، ونحن مقيدون بالعجز والركون إلى الواقع، لألا نتشوق للمبيت تحت سقفه وسمائه، ملتحفين تاريخًا عظيمًا، ومتدثرين واقعًا مرًّا.

أخيرًا، إن الأحداث العظيمة تحتاج إلى نفوس عظيمة كذلك، وها هو الأقصى اليوم، كما كان بالأمس، يمتحن قلوبنا وعزائمنا، فإن كنّا قد ورثنا شوق الصالحين إليه، فعلينا أن نورّث أبناءنا العمل لأجله وفي سبيله، فلا يكون الحديث عنه حنينًا ساكنًا، بل عهدًا متجددًا على الرباط والوفاء، حتى يأتي يومٌ نكون فيه نحن أو من سيأتي من بعدنا، من يصلي في رحابه أحرارًا.

 

اقرأ أيضاً:

ذكرى حريق «الأقصى».. وتصاعد الاعتداءات الصهيونية

ذكرى حرق المسجد الأقصى.. ومستقبل الكيان الصهيوني

لئلا يُحرق «الأقصى» مرة ثانية!

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة