لماذا وُلد النبي ﷺ يتيماً؟ الحكمة الإلهية في نشأة خاتم الأنبياء

من حكمة الله تعالى أن يولد النبي صلى الله
عليه وسلم يتيماً؛ «حيث مات أبوه عبدالله وهو جنين في بطن أمه، وتزوج عبدالله من آمنة
بنت وهب بن عبد مناف، فبنى بها في مكة، وبعد قليل أرسله عبدالمطلب يمتار لهم تمراً
من المدينة، فمات بها، وكانت وفاته قبل أن يُولد رسول الله صلى الله عليه وسلم»(1).
نشأة في كنف اليتم
عاش النبي صلى الله عليه وسلم حياة اليتم
في أسرة رغم عزتها ورفعة شأنها، فإنها كانت فقيرة، فزهدت المرضعات فيه ولم تقبله سوى
مرضعة كادت تعود دون أن تحصل على طفل، فقبلت به مضطرة كي لا تعود بغير طفل ترضعه.
ومع اليتم والحياة الصعبة، تموت أمه وهو في
عمر السادسة، ليفقد طرفي الحياة معاً؛ القوة والسند والظهير متمثلاً في أبيه، والحنان
والحب والرحمة والمتمثل في أمه ليكون وحيداً في حياة الصحراء القاسية دون أن يعي معنى
الموت أو الفقد أو الحرمان، بالرغم من رعاية جده ثم عمه له بعد أن مات جده وهو في عمر
8 أعوام.
ولذلك، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم
رؤوفاً بالأيتام، يشفق عليهم ويحث على رعايتهم والاهتمام بهم لتعويضهم الفقد الصعب،
فيقول صلى الله عليه وسلم: «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا» وَأَشَارَ
بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. (رواه البخاري).
الحكمة الإلهية من يتم النبي(2)
لا شيء في ملك الله سبحانه يدور بغير حكمة
إلهية، ومع هذه الحكمة البالغة، فقد رافقها الرفق الرباني الذي تكفل بإعداد خاتم أنبيائه
وأحب خلقه له سبحانه، لقد جعله يتيماً، لكنه آواه وامتن عليه برعايته، فقال تعالى:
(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً
فَآوَى) (الضحى: 6).
ومن حكمة الله تعالى في جعل النبي يتيماً:
1- القدوة المكتملة: يقول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) (الأحزاب:
21)، فالنبي محمد عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء، وهو أسوة لكل البشر،
منهم الكبير والصغير، ومنهم اليتيم وغير اليتيم، ومن الأيتام من هو يتيم أحد الأبوين
أو كليهما، فتحقيقاً لكمال الابتلاء، وتحقيقاً لكمال القدوة، كان يجب أن يمثل النبي
صلى الله عليه وسلم المستضعفين في كل زمن تحقيقاً لكمال النبوة، وتصديقاً لأحكامها
الواجبة على كل مسلم، فيكون مع الفقراء، ويكون مع الأيتام، ويكون إمام الرحماء، ويكون
اليتم سلوى للأيتام أن كان النبي صلى الله عليه وسلم مثلهم.
2- ومن حكمة يتم النبي صلى الله عليه وسلم
أن ينشأ بعيداً عن حياة الترف والميوعة والنعومة، فيشتد عوده، وتقوى نفسه، ويتأهل لحمل
أعظم رسالة عرفتها الدنيا، ويتدرب على حمل المسؤولية الأعظم في تاريخ البشرية منذ بدء
الخليقة، فعاش حياة الفقر والخشونة، فرعى الأغنام وهو صغير، وأخبر بنفسه قائلاً: «مَا
بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ»، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟
فَقَالَ: «نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ» (رواه البخاري).
وقد تعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصبر
وسعة الصدر من مهنة الرعي بعد قضائه الليالي المتوالية والطويلة في السهر على الأغنام
ورعايتها، وما كان يتعلم ذلك لو كان قد نشأ في كنف أمه وأبيه ودفء رعايتهما، وبذلك
يكون اليتم رغم قسوته دافعاً للنجاح واكتساب القوة والصلابة في مواجهة متاعب الحياة
وتحدياتها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فأتم رسالته وبلغ قول ربه الذي صدق فقال:
(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً
فَآوَى {6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى {7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى) (الضحى).
3- أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يكون إعداد
الأنبياء جميعاً بنفس المنهجية حتى لو كانوا غير أيتام، فهذا يوسف الصديق عليه السلام
يحرم من صحبة أبيه يعقوب عليه السلام، ويلقى في البئر، ويباع رقيقاً ويصير غلاماً في
بيت العزيز ثم يتعرض لابتلاء تلو الآخر لينتهي بالسجن، ولا يثنيه ذلك عن الدعوة لتوحيد
الله تعالى، وكذلك موسى عليه السلام الذي عاش مطارداً من فرعون، يقول فيه تعالى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه:
39)، (وَاصْطَنَعْتُكَ
لِنَفْسِي) (طه: 41).
ثم تأتي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لتكون
امتداداً لحياة إخوانه الأنبياء من قبل فيقول تعالى فيها: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113).
النبي القدوة في معاملة الأيتام
لم يوجد في الإنسانية حتى اليوم من هو أكثر
رحمة من النبي صلى الله عليه وسلم بالأيتام واهتمامه بهم، ولم يوجد تشريع أرضي اهتم
بهم كما اهتم بهم القرآن الكريم الذي هو شريعة المسلمين، فيأمر نبي الرحمة بعدم قهرهم،
يقول تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ
فَلَا تَقْهَرْ) (الضحى: 9)، ويحذر القرآن من أكل حقوقهم، يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) (النساء: 10)،
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم كفالة اليتيم ضمانة لصحبته وجواره في الجنة، كما بشر
مَن أحسن إلى اليتيم ولو بمسح رأسه ابتغاء وجه الله بالأجر والثواب الكبير، حيث قال:
«من مسح رأس يتيم، لم يمسحه إلا لله، كان له بكل شعرة مرت عليها يده حسنات، ومن أحسن
إلى يتيمة أو يتيم عنده، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين» (رواه أحمد).
من لأيتام الأمة اليوم؟
لقد أعد الله عز وجل نبيه ليكون قدوة عملية
للأمة فيما يتعلق برعاية الأيتام وتربيتهم والعناية بهم حتى يبلغوا شاطئ الأمان ويكونوا
قادرين على رعاية أنفسهم، وها هي الأمة تمر بمحن متتالية تؤثر على واقعها ومستقبلها،
ويزداد عدد الأيتام كل يوم، في غزة واليمن والسودان ومن قبلهم سورية وليبيا والعديد
من البلاد في أنحاء الأرض.
وقد بلغ عدد أيتام غزة وحدها أكثر من 25 ألف
طفل، فقدوا آباءهم، أو أمهاتهم، أو كلا الأبوين، وفي سورية خلف عدوان النظام السابق
ملايين الأطفال من الأيتام، وفي اليمن عشرات الآلاف من الأيتام بحاجة ماسة لمن يتولى
رعايتهم بدءاً من التعليم والصحة والكفالة الكاملة.
فأصبح لزاماً على القادرين استلهام نموذج النبي صلى الله عليه وسلم في رعاية هؤلاء الأيتام والاهتمام بشؤونهم، والعمل بقول الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (البقرة: 83)، وقال تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً) (النساء: 6).
_________________
(1) الرحيق المختوم، ص 58.
(2) سعيد حوى: الأساس في السُّنة وفقهها،
السيرة النبوية ط3 دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، ج 1، ص 158 (بتصرف).