أسوار العفة

من عظيم عناية الشريعة الإسلامية بالإنسان أنها جعلت له مقامات لا تُمس، وحقوقًا لا تُنتهك، وجعلت من أعلاها مقام «العِرض»، فكان واحدًا من الكليات الخمس التي أجمعت الشريعة على حفظها: الدين، النفس، العقل، المال، والعِرض.

فالعِرض ليس مجرد سمعة فرد، بل كيان الأسرة وكرامة الجماعة، وموضع الشرف الإنساني، وقد شددت الشريعة على صيانته، فجعلت القذف من الكبائر، ورتبت عليه حداً هو من أشد الحدود؛ 80 جلدة في الدنيا، ورفض الشهادة أبدًا، ووصمة الفسق، بل إن الله تعالى توعد بالقاذفين المؤمنين العفيفين بعذاب أليم في الدنيا والآخرة، حين قال: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النور: 23).

لقد شرعت الشريعة لذلك نظامًا متكاملًا من الحدود والآداب؛ حد الزنى وحد القذف وحد التعزير لكل سلوك يفضي إلى الفجور أو يشيع الفاحشة، ولم تكتف بالزجر القانوني، بل زرعت في الضمير المسلم وازع الحياء والعفة، وشرعت غض البصر، وحثت على الحجاب، وأمرت بالاستئذان، ونهت عن التبرج والخلوة والنظر واللمس، وكل ما قد يؤدي إلى مسّ العِرض من قريب أو بعيد، وهذا التشريع إنما يعبر عن حكمة ربانية ترى أن الوقاية خير من العلاج، وأن إشاعة العفاف في المجتمع تحفظ الأرواح والنفوس قبل أن تسقط في دركات الانحراف.

لكن في زمن الانفتاح غير المنضبط، وتدفق وسائل التواصل الاجتماعي، وتسييل القيم الأخلاقية، صار العِرض مستباحًا تحت شعارات الحرية والتعبير والانفتاح، صور تنتهك الخصوصيات، وتعليقات تسخر وتقدح، ومحتوى يُروّج للابتذال ويطعن في الأعراض بأبشع الصور، دون اعتبار لحدود أو ضوابط، هنا يجد المسلم نفسه في تحدٍّ مزدوج؛ أن يثبت على القيم في زمن الرياح العاتية، وأن يربي أسرته على تلك القيم من غير أن ينكفئ أو ينعزل عن العالم.

وهنا تظهر الحاجة إلى التربية الواعية التي تغرس في الأبناء قيمة العِرض لا بوصفه فقط شأنًا شخصيًا، بل قضية إيمانية وواجبًا اجتماعيًا، لا بد أن يتعلم الأبناء أن عرضهم أمانة، وأن أعراض الناس كذلك، وأن ما يُقال في السر أو يُنشر في العلن هو شاهد على أخلاقهم، وأن التقنية الحديثة لا تُعفيهم من المسؤولية بل تزيدها، التربية هنا لا تكون بالخطب فقط، بل بالمواقف، بالمراقبة الرحيمة، بالقدوة، بإدارة المحتوى الرقمي داخل البيت، بفتح حوارات حول المحتوى الذي يتعرضون له، وبمساعدتهم على تكوين معايير نقدية تُميز الغث من السمين.

ولكي تصمد الأسرة في وجه هذه العواصف، فلا بد أن تُبنى على قواعد من الستر والاحترام، وأن تُحاط بأجواء العفاف لا التشدّد، وبثقافة الوعي لا الخوف، وبالإقناع لا القمع، يتربى فيها الفتى على أن الرجولة لا تكون بالعبث بأعراض الناس، وتُربى الفتاة على أن جمالها الحقيقي في كرامتها، لا في عدد الإعجابات على صورة.

إن حماية العِرض ليست مسألة قانونية فقط، بل بناء داخلي يبدأ من إيمان، ويُصاغ بأسرة، ويُرسخ في مجتمع، وكلما اهتزت هذه الحماية، انكشفت الأمم وسقطت في وحل الانحدار، فطوبى لمن جعل من عفته عنوانًا، ومن ستره شرفًا، ومن غرسه في أسرته درعًا تقيها ضجيج العالم وزيفه.


كلمات دلالية

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة