الأحكام الفقهية المتعلقة بالاستفادة من المساعدات الصهيونية الأمريكية

وردتني أسئلة كثيرة حول حكم الذهاب إلى نقاط توزيع المساعدات الصهيونية الأمريكية منذ بدء توزيعها في السابع والعشرين من شهر مايو، إلا أني توقفت عن إصدار موقف شرعي بالخصوص؛ لمجموعة من الأسباب:

أولها: أن الناس في عوز شديد، ولا يوجد أمامهم بدائل أخرى للحصول على الطعام، فلم يكن لديَّ جرأة على تحريمها رغم مفاسدها الكبيرة، فقد أجاز الشرع الميتة للضرورة، كما قال تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النحل: 115)، وسيكون في تحريم الذهاب للمساعدات فتنة للناس في دينها، إذ ليس كلهم يتفهم المصلحة الكبرى من مقاطعة هذه المساعدات المغموسة بالدم، ومعظمهم ينظر لها من فراغات منخل الطحين الذي لم يستعمله منذ عدة أيام.

ثانيها: لأن الحكم في هذه المسألة ينبغي أن يوجه لأمة المليار قبل أن يوجه لمن أنهكهم الحصار، فالدول الإسلامية التي تشاهد المأساة، وتصمت عليها، أو تشارك فيها، أو تتخاذل عن تغيير واقعها، هي الأحق بأن نبين لها حكم الصمت والخذلان، فقبل أن تأمر الباكي بالكف عن البكاء ينبغي أن ترفع عنه اليد الضاربة له.

أمعاء خاوية وضمائر نائمة.. غزة تتضور جوعاً |  Mugtama
أمعاء خاوية وضمائر نائمة.. غزة تتضور جوعاً | Mugtama
تعيش غزة اليوم حالة إنسانية صعبة جداً، حيث تفاقمت...
mugtama.com
×

الدول الإسلامية التي تشاهد المأساة هي الأحق بأن نبين لها حكم الصمت والخذلان!

ثالثها: أن المفاسد المتوقعة كانت قبل البدء العملي في توزيع المساعدات ظنية، ويمكن أن تنخفض أو تختفي مع الوقت، إلا الأيام أثبتت أن المفاسد تتزايد، بل إن ممارسة القتل والخنق والأسر والإذلال والبلطجة والابتزاز في نقاط التوزيع جاءت عملياً أبشع مما كنا نتوقع.

وأمام استمرار الحرب والحصار، ونزيف القتل اليومي بمتوسط عشرين قتيلاً يومياً في نقاط المساعدات الأمريكية، وتعاظم مفاسد الذهاب إليها، وجدت أن الواجب الشرعي إقامة الحجة، وبيان الحكم الفقهي في المسألة، فمن شاء أخذ بها، ومن أعرض فقد اختار مصيره بنفسه، فقد قال الله تعالى: (لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) (الأنفال: 42)، وفي ضوء ذلك أضع هذه الإضاءات الشرعية في الموضوع على النحو التالي:

1- آلية توزيع المساعدات الحالية في مصائد الموت الصهيونية الأمريكية التي فيها إذلالٌ للناس، وامتهانٌ لآدميتهم، وسببٌ لقتلهم وإلحاق الأذى بهم، تتعارض مع الحقوق الشرعية والإنسانية، وقد رفضتها الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية الإنسانية والقانونية، وتغيب فيها معايير العدالة، حيث يعجز كبار السن والعجزة والضعفاء من النساء والأطفال والجرحى عن الاستفادة منها.

ويجب على كل مسلم؛ حاكماً كان أو محكوماً، له قدرة على إلغائها واستبدال آلية بها تحقق العدالة، أن يبذل جهده في ذلك، وإن الضغط الدولي الحقيقي، والمقاطعة الجماعية لهذه الآلية تسهم في إسقاطها.

2- الذاهبون إلى المساعدات خلقٌ كثير، وأحوالهم متفاوتة، ولا يصح إعطاء حكم شرعي واحد لكل الذاهبين إليها، فقد يجوز في حق بعضهم ويحرم في حق آخرين، إذ التحريم في الشريعة قد يكون ذاتياً تتلازم فيه المفسدة مع الفعل، كما في تحريم الفواحش والسرقة والربا، وهو ما يعرف بالمحرم لذاته، فهو محرم في كل الأوقات في حق كل الأشخاص، وقد يكون التحريم لمفسدة غير متلازمة مع الفعل، ويمكن وجودها معه ويمكن تخليصه منها، وهو ما يعرف بالمحرم لغيره، كما في تحريم البيع وقت الجمعة، فالتحريم ليس لذات البيع وإنما للوقت الذي وقع فيه، أو الشخص الذي وقع منه.

لذلك، فإن الفعل الجائز في أصله يصبح محرماً إذا نشأ عنه مفاسد غالبة، وذهاب الناس إلى المساعدات من هذا النوع، كما أن الفعل المحرم قد يجوز استثناء ورخصة في بعض الأحوال وفي حق بعض الأشخاص.

مجزرة المساعدات وقتل المجوَّعين.. حين يُذبح الإنسان على أكياس الطحين! |  Mugtama
مجزرة المساعدات وقتل المجوَّعين.. حين يُذبح الإنسان على أكياس الطحين! | Mugtama
في مشهدٍ مأساوي تهتزّ له الجبال وتقشعر له الأبدان...
mugtama.com
×

آلية توزيع المساعدات الصهيونية الأمريكية تتعارض مع الحقوق الشرعية والإنسانية

3- هناك ممارسات تتعلق بالذهاب إلى المساعدات تتردد بين الإباحة والكراهة والتحريم، وفيها خفاء وقابلية لتعدد الآراء، وهناك ممارسات نجزم بتحريمها دون مواربة أو تردد، ومن ذلك:

- يحرم التعاون مع الاحتلال الصهيوني مقابل الحصول على تسهيلات تتعلق بالاستفادة من هذه المساعدات، فهذا من الخيانة التي نهى الله تعالى عنها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال: 27).

- يحرم ذهاب الأفراد الذين يملكون ما يسد حاجتهم اليومية الأساسية في المأكل والمشرب والملبس والدواء والإيواء؛ لأن المخاطرة في الذهاب عالية، وإن جازت استثناء في حق المضطر الذي لا يجد ما يسد حاجته، فهي لا تجوز في حق غير المحتاج.

- لا يجوز أخذ كمية من المساعدات أكثر من القدر المخصص للعائلة الواحدة، ولا يجوز التسبب في إتلاف الطرود الإغاثية، بفتحها وانتقاء الأصناف المميزة منها التي يخف حملها ويرتفع سعرها كالسكر، والتخلص من الأصناف الأخرى بالإهدار والإلقاء تحت الأقدام.

- يحرم على الأشخاص الذين يعملون في المقاومة، أو يغلب على ظنهم استهداف الاحتلال لهم قتلاً أو أسراً الذهاب إلى مصائد الموت، ويجب سد احتياج هذه الفئة من خلال الجهات التي يتبعون لها، والمبادرات الإغاثية المجتمعية، قال الجويني في كتاب «الغياثي»: «وإن ضاع فقيرٌ بين ظهراني موسرين، حرجوا من عند آخرهم».

- لا يجوز غصب المواد التموينية من الأشخاص الذين حصلوا عليها من نقاط التوزيع أثناء عودتهم، فهذا من الظلم والعدوان والغصب.

- يحرم تعريض النفس للمخاطرة بالذهاب في الأماكن والأوقات التي يتقصد فيها الاحتلال استهداف الذاهبين، أو الدخول من المسارات التي يغلب على الظن قتل من يدخل فيها، أو التبكير في الذهاب قبل الوقت المحدد للدخول، فهذا من تعريض النفس للهلاك، والله تعالى يقول: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (البقرة: 195).

تفكيك المؤسسة حاجة إنسانية وضرورة أخلاقية |  Mugtama
تفكيك المؤسسة حاجة إنسانية وضرورة أخلاقية | Mugtama
لما كانت المؤسسات الإنسانية الدولية، الموقعة على...
mugtama.com
×

هناك ممارسات تتردد بين الإباحة والكراهة والتحريم وفيها خفاء وقابلية لتعدد الآراء

- إذا كان الذاهب للمساعدات محتاجاً فعلاً، والتزم بالضوابط المتعلقة بوقت ذهابه ومسار تحركه وقدر ما يأخذه، فلا أنصحه بالذهاب، فإن الحكم يدور بين الكراهة والتحريم، ورغم أن الكراهة تزول مع الحاجة، ويرخص في الحرام بقدر الحاجة عند خشية الهلاك وعدم توفر البديل، إلا أن احتمال الجوع مفسدته أقل من مفسدة القتل والإصابة، والقرآن الكريم يرجح الغالب على النادر في المصالح والمفاسد، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) (البقرة: 219)، فأن تبقى بلا طعامٍ عدة أيامٍ أهون من أن يبقى أبناؤك بلا أب، وتبقى زوجتك بلا زوج، وتبقى أمك بلا ابن.

- يجوز الانتفاع بالمواد التموينية التي تحصلوا عليها من نقاط التوزيع بالضوابط السابقة، سواء كان الانتفاع بالتبرع والإهداء أو الشراء لها؛ لأنها من التبرعات التي تصبح مملوكة بالقبض، ولمالكها التصرف بها على الوجه المشروع، ولا بأس بالتجارة فيها، على أن يلتزم البائع الرحمة في البيع، والصدق في المعاملة، والرفق بالناس، ويربح قدراً معقولاً يجعل السلع في متناول الناس، وييسر عليهم في ظل المجاعة والحاجة الشديدة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللهُ عبداً سَمْحاً إذا باعَ، سَمْحاً إذا اشْتَرى، سَمْحاً إذا قَضَى، سَمْحاً إذا اقْتَضَى» (رواه البخاري، ح 2076).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة