إعداد الدعاة في الحضارة الإسلامية (27)

التمسك بصدق الحديث

قَالَ الْحَجَّاج بن فُرَافِصَةَ: كَانَ رَجُلَانِ يَتَبَايَعَانِ عِنْدَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فكَانَ أَحَدُهُمَا يُكْثِرُ الْحَلِفَ، فَمَرَّ عَلَيْهِمَا رَجُلٌ، فَقَامَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ لِلَّذِي يُكْثِرُ الْحَلِفَ: يَا عَبْدَاللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُكْثِرِ الْحَلِفَ، فَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي رِزْقِكَ إِنْ حَلَفْتَ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ رِزْقِكَ إِنْ لَمْ تَحْلِفْ، قَالَ: امْضِ لِمَا يَعْنِيكَ، قَالَ: إِنَّ ذَا مِمَّا يَعْنِينِي، فَلَمَّا أَخَذَ لِيَنْصَرِفَ عَنْهُمَا، قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ مِنْ آيَةِ الْإِيمَانِ أَنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ، وأَلا يَكُونَ فِي قَوْلِكَ فَضْلٌ عَلَى عَمَلِكَ، ‌وَاحْذَرِ ‌الْكَذِبَ ‌فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ(1).

في هذا الموقف دليل على اهتمام الدعاة في الحضارة الإسلامية بغرس قيمة الصدق في الحديث والتمسك بها، مهما كانت التحديات أو المغريات، والصدق في الحديث يعني أن يحفظ الإنسان لسانه عن الإخبار بشيء على خلاف ما هو عليه في الحقيقة.

مظاهر حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على التمسك بصدق الحديث

1- الصدق زين: قال الفضيل: ‌ما ‌تزين ‌الناس ‌بشيء ‌أفضل ‌من ‌الصدق(2)، وعن سفيان أن عمر بن عبدالعزيز كَلَّمَ الْوَلِيدَ فِي شَيْءٍ فَقَالَ لَهُ: كَذَبْتَ! فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: ‌مَا ‌كَذَبْتُ ‌مُنْذُ ‌عَلِمْتُ ‌أَنَّ ‌الْكَذِبَ ‌يُشِينُ ‌صَاحِبَهُ(3).

2- عدم الحديث بكل ما يسمعون: عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بن الخطاب: حَسْبُ امْرِئٍ مِنَ الْكَذِبِ أَنْ ‌يُحَدِّثَ ‌بِكُلِّ ‌مَا ‌سَمِعَ(4).

3- اعتبار الصدق أمارة على الاستقامة: عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لَا تَنْظُرُوا إِلَى صَلَاةِ أَحَدٍ، وَلَا إِلَى صِيَامِهِ، وَلَكِنِ ‌انْظُرُوا ‌إِلَى ‌مَنْ ‌إِذَا ‌حَدَّثَ ‌صَدَقَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ أَدَّى، وَإِذَا أَشْفَى وَرِعَ(5).

4- عدم الكذب على الأهل: روى البخاري في «الأدب المفرد» بسند صححه الألباني عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بن مسعود قَالَ: ‌«لَا ‌يَصْلُحُ ‌الْكَذِبُ ‌فِي ‌جِدٍّ وَلَا هَزْلٍ، وَلَا أَنْ يَعِدَ أَحَدُكُمْ وَلَدَهُ شَيْئًا ثُمَّ لَا يُنْجِزُ لَهُ»، وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو مُوسَى: جَهِّزْنِي يَا أَنَسُ، وَقَالَ لِلنَّاسِ: إِنِّي خَارِجٌ إِلَى ثَلَاثٍ فَلَمَّا جَاءَ الْوَقْتُ قَالَ: يَا أَنَسُ، فَرَغْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَقِيَ كَذَا وَكَذَا قَالَ: إِنِّي خَارِجٌ فَقُلْتُ: لَوْ أَقَمْتَ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ قَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ ‌أَكْذِبَ ‌أَهْلِي ‌فَيَكْذِبُونِي وَأَخُونَهُمْ فَيَخُونُونِي(6).

5- ترك الكذب ولو في المزاح: عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ كُلَّ الْإِيمَانِ حَتَّى لَا يَأْكُلَ إِلَّا كَسْبًا، وَيُتِمَّ الْوُضُوءَ فِي الْمَكَارِهِ، ‌وَيَضَعَ ‌الْكَذِبَ ‌وَلَوْ ‌فِي الْمُزَاحَةِ(7).

6- التمسك بالصدق وإن خيف منه الخطر: قال الجنيد: حقيقة الصّدق أن تصدق في موطن لا ينجّيك منه إلّا الكذب، وقال ابن القيم: عليك بالصّدق حيث تخاف أنّه يضرّك، فإنّه ينفعك، ودع الكذب حيث ترى أنّه ينفعك فإنّه يضرّ بك(8)، وقيل لسلمة بن دينار: يا أبا حازم: ما أعدل العدل؟ فقال: ‌كلمة ‌صدق ‌عند ‌من ‌ترجوه ‌وتخافه(9).

دوافع حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على التمسك بالصدق

1- حفظ الإيمان: عَنْ قَيْسٍ، عن أَبي بَكْرٍ الصديق قال: إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّهُ ‌مُجَانِبٌ ‌الْإِيمَانَ، وعَنْ عُمَرَ بن الخطاب قَالَ: لَا تَبْلُغُ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى ‌تَدَعَ ‌الْكَذِبَ ‌فِي ‌الْمُزَاحِ(10)، وعن عَبْدِاللهِ بن مسعود، قَالَ: ‌كُلُّ ‌الْخِلَالِ ‌يُطْوَى عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُ إِلَّا الْخِيَانَةَ، وَالْكَذِبَ(11).

2- عمارة القلب بالبر وتنقيته من الفجور: عَنْ مُرَّةَ بْنِ شَرَاحِيلَ قَالَ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ بن مسعود: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقاً، وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى مَا يَكُونَ ‌لِلْفُجُورِ ‌فِي ‌قَلْبِهِ ‌مَوْضِعُ إِبْرَةٍ يَسْتَقِرُّ فِيهِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى مَا يَكُونُ لِلْبِرِّ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعُ إِبْرَةٍ يَسْتَقِرُّ فِيهِ(12).

3- الوقاية من الذنوب: عن عَبْدالرَّحْمَنِ بْن عَابِسٍ، قال: حَدَّثَنِي نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: شَرُّ الرَّوَايَا رَوَايَا الْكَذِبِ، وَأَعْظَمُ الْخَطَايَا ‌اللِّسَانُ ‌الْكَذُوبُ(13).

4- الحماية من أخطار الدنيا: عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: أَرْبَعُ ‌خِلَالٍ ‌إِذَا ‌أُعْطِيتَهُنَّ لَمْ يَضُرَّكَ مَا عُزِلَ عَنْكَ مِنَ الدُّنْيَا: حُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعَفَافُ طُعْمَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحِفْظُ أَمَانَةٍ(14)، وعن ابن عباس، قال: ‌أربع ‌من ‌كن ‌فيه ‌فقد ‌ربح: الصدق، والحياء، وحسن الخلق، والشكر(15).

وقال سيدنا علي بن أبي طالب: ‌يبلغ ‌الصادق ‌بصدقه ما لا يبلغه الكاذب باحتياله(16)، وعن مُطَرِّفٌ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: مَا ‌كَانَ ‌رَجُلٌ ‌صَادِقاً ‌لَا ‌يَكْذِبُ إِلَّا مُتِّعَ بِعَقْلِهِ وَلَمْ يُصِبْهُ مَا يُصِيبُ غَيْرَهُ مِنَ الْهَرَمِ وَالْخَرَفِ(17)، وقال النووي: «الصِّدْقُ وَمُلَازَمَته فَضِيلَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَشَقَّةٌ ‌فَإِنَّ ‌عَاقِبَتَهُ ‌خَيْرٌ(18).

5- الاندفاع إلى عمل الصالحات: قال إبراهيم الخوّاص: الصّادق لا تراه إلّا في فرض يؤدّيه، أو فضل يعمل فيه(19)، وسئل الجنيد عن الصّدق والإخلاص أهما واحد أم بينهما فرق؟ فقال: بينهما فرق، الصّدق أصل، والإخلاص فرع، والصّدق أصل كلّ شيء، والإخلاص لا يكون إلّا بعد الدّخول في الأعمال، والأعمال لا تكون مقبولة إلّا بهما(20).

6- تحصيل الحكمة: روى مالك في «الموطأ» أَنَّهُ قِيلَ لِلُقْمَانَ: ‌مَا ‌بَلَغَ ‌بِكَ ‌مَا ‌نَرَى؟ فَقَالَ لُقْمَانُ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي. وقال مَرْدَوَيْه الصّائغ: قال لي ابن المبارك: إنّ ‌الْفُضَيْلَ ‌صَدَق ‌الله فأجرى الحكمة على لسانه، وهو ممّن نفعه الله بعِلمه(21).




_________________

(1) مكارم الأخلاق: ابن أبي الدنيا، ص 52.

(2) حلية الأولياء: الأصبهاني (8/ 108).

(3) ذم الكذب: ابن أبي الدنيا، ص 37.

(4) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 237).

(5) السنن الكبرى: البيهقي (6/ 471).

(6) الزهد: أحمد بن حنبل، ص 162.

(7) الجامع: ابن وهب القرشي، ص 640.

(8) مدارج السالكين: ابن القيم (2/ 290).

(9) حلية الأولياء: الأصبهاني (3/ 235).

(10) مصنف ابن أبي شيبة (5/ 236).

(11) المعجم الكبير: الطبراني (9/ 184).

(12) الزهد: وكيع، ص 699.

(13) الصمت: ابن أبي الدنيا، ص 239.

(14) الزهد والرقائق: ابن المبارك، ص 424.

(15) إحياء علوم الدين: الغزالي (4/ 387).

(16) مجاني الأدب في حدائق العرب: رزق الله بن يوسف، (2/ 72).

(17) التمهيد: ابن عبدالبر (1/ 70).

(18) شرح النووي على صحيح مسلم (17/ 100).

(19) مدارج السالكين: ابن القيم (2/ 290).

(20) دليل الفالحين: ابن علان (1/ 202).

(21) تاريخ الإسلام: الذهبي (12/ 186).


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة