غزة بين الجوع والخذلان.. فهل من ناصر؟

غزة، هذا الشريط الصغير من الأرض، يشهد منذ سنوات حصارًا خانقًا اشتدّ في
الآونة الأخيرة ليبلغ ذروته في صورة مجاعة تهدد حياة مئات الآلاف من الأبرياء،
خصوصًا الأطفال والنساء والشيوخ،
ومع اشتداد الحصار ونفاد الموارد، برزت أمام الأمة الإسلامية مسؤولية شرعية
عظيمة تجاه هذا الشعب الصابر، تستدعي وقفة صادقة تُستنهَض فيها النصوص الشرعية،
وتُفعَّل فيها أدوات النصرة بكافة أشكالها.
فما هذه المسؤولية؟ وما السبيل الشرعي لنصرة غزة وأهلها؟ وهل يجوز شرعًا أن
نشهد المجازر بصمت وأن نغضّ الطرف عن المأساة؟
المجاعة في غزة واقع لا يُنكر
أكّدت تقارير دولية وأممية أن غزة تعاني من مجاعة فعلية، إذ لم يعد الغذاء
والدواء متوفرين، والماء الصالح للشرب مفقود، والمواد الأساسية أصبحت حلمًا بعيد
المنال، هذا الواقع يمثل صورة من صور القتل الجماعي البطيء، وهو ما ينذر بكارثة
إنسانية وإبادة جماعية، تستوجب من الأمة الإسلامية والعالم التحرك العاجل.
لقد وصلت نسب الفقر والبطالة وانعدام الأمن الغذائي إلى مستويات غير
مسبوقة، بل وذكرت منظمات موثوقة أن أطفالًا قضوا جوعًا، وأن أمهات يعجزن عن إرضاع
أطفالهن لنقص الغذاء والماء، فأي إنسانية تُجيز هذا؟ وأي ضمير يقبل أن تُزهق
الأرواح بهذه البشاعة؟
وجوب نصرة المظلوم
الإسلام دين النصرة والرحمة، وقد جاءت نصوص كثيرة تُوجب الوقوف مع المظلوم
ومناصرته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، قالوا:
يا رسول الله، هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالمًا؟ قال: «تأخذ فوق يده» (رواه
البخاري)، فإن كان الظالم يجب أن نأخذ على يده، فكيف إذا كان المظلوم يُقتل ويُجاع
ويُمنع من أبسط حقوقه؟
وقال الله تعالى: (وَإِنِ
اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) (الأنفال: 72)،
فهذه الآية تُقرّر مبدأ وجوب نصرة المستضعفين إذا استنصرونا، وهم اليوم في غزة
يستصرخون ضمائر الأمة! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا
يظلمه ولا يسلمه» (متفق عليه)؛ أي: لا يتركه في مهب الظلم دون حماية ونصرة.
سبل النصرة الشرعية لأهل غزة
إن الوقوف مع غزة لا يقتصر على المشاعر، بل يتطلب تفعيل كل الوسائل الشرعية
الممكنة، وأهمها:
1- الدعاء الصادق: الدعاء سلاح لا يستهان به، وقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم: «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» (رواه الترمذي)، فعلينا أن نُكثر من
الدعاء لأهل غزة في الصلوات، وفي قيام الليل، وفي الجمع، وفي التجمعات العامة
والخاصة.
2- الإغاثة المالية والعينية: تقديم المال والدواء والطعام لمنظمات موثوقة
هو واجب الوقت، قال تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة: 32).
3- النصرة الإعلامية والسياسية: الواجب علينا أن نُوصل صوت غزة إلى العالم،
وأن نُظهر حقيقة العدوان وجرائم الاحتلال، وهذا يشمل كل فرد بحسب وسيلته، من منشور
على وسائل التواصل، إلى مشاركة في وقفة تضامن.
4- المقاطعة الاقتصادية للكيان الغاصب وداعميه: وهذا من الجهاد المدني الذي
يؤثر اقتصاديًا على المعتدي، وقد ثبت فقهًا أن الامتناع عن شراء منتجات العدو جائز،
بل مستحب، وقد يكون واجبًا إن ثبت فيها دعم مباشر للعدو.
5- بناء وعي الأجيال بالقضية الفلسطينية: يجب أن نزرع في قلوب أبنائنا أن
فلسطين قضية عقيدة، وأن «الأقصى» مسرى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الدفاع عن
المقدسات واجب ديني، لا مجرد نزعة قومية.
تقصير الأمة يستوجب التوبة الجماعية
إن حال غزة اليوم لا تكشف فقط عن وحشية الاحتلال، بل عن تقصير الأمة، وإذا
أردنا النصر حقًا، فعلينا أن نراجع أنفسنا ونتوب من تقصيرنا، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: 11).
فليبدأ كلّ منا بإصلاح نفسه، وأداء دوره، والقيام بواجبه تجاه هذه القضية،
كلٌّ حسب قدرته، من إمام المسجد إلى المعلم في الصف، ومن صاحب المال إلى الإعلامي
والكاتب والخطيب، وإن العجز الحقيقي ليس في قلة الموارد، بل في قلة الإحساس.
واجب العلماء والخطباء والدعاة
يقع على عاتق أهل العلم مسؤولية عظيمة، فهم ورثة الأنبياء، ويجب أن يكونوا
في مقدمة الصفوف لنصرة غزة، عبر توعية الناس، وبيان الأحكام الشرعية، وشحذ همم
الأمة، قال تعالى: (وَإِذْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ
وَلا تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران: 187).
المجاعة في غزة ليست مجرد أزمة إنسانية، بل امتحان إيماني تُختبر فيه
ضمائرنا، وشرعيتنا، وأخلاقنا، والسكوت عنها أو التقاعس عن نصرة أهلها خذلان، قد
يُعرضنا لسخط الله، ويُورثنا الذل في الدنيا والآخرة، فلنستيقظ من سباتنا، ولننصر
أهل غزة بما نملك، فالله سائِلُنا عنهم، وما أكثر ما نملك!