من وحي شهر الربيع

مولد الرسولصلى الله عليه وسلم هو مولدُ الإنسانية، وشهرُ ربيع الأول هو ربيع الإنسانية، كانت الفترة قبل البعثة النبوية، من أشدِّ الفترات التي مرَّت بها الإنسانية ظلامًا وانحطاطًا، ومن أحطِّ أدوار التاريخ دينًا وخُلقًا، كانت الإنسانية تعاني فوضى عارمة في سائر شؤون حياتها، وكانت الجاهلية مخيمة بأطنابها على العقائد، والأفكار، والتصورات، والنفوس والأذهان، وكان الجهل والهوى، والانحلال والفجور، والتجبُّر والتعسُّف من أبرز ملامح المنهج الجاهلي المهيمن على دنيا الناس.
ففي هذا الوضع
الحالك بُعث نبي الرحمة والإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم ليقوم بإصلاح تلك
الأوضاع الفاسدة، والظروف الاجتماعية المنحلة، والأحوال الدينية المنحطة، وإنقاذ
البشرية المحتضرة، من الهلاك والدمار، فانبلج النور، وانجلى الظلام، وحلَّ الربيع،
وولَّى الخريف، وساد الأمن، وزال الظلم، وعمَّ الرخاء والفضيلة، وارتفع الشقاء
والرذيلة، وانتشرت الرحمة والسعادة، واكتست صحراء العرب بفضل النبي العظيم حلة
أنيقة، بل أنبتت زهرة يانعة.
وإن عاطفة
الحرية نشأت في ظل هذا النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل ترعرعت ونمت في حجره، لقد وضع
قلبًا نابضًا خفاقًا في جسد الإنسان البارد، وأزاح الستار عن طلعته الجميلة
الوضاءة، وهزم كل طاغوت، وحطم كل صنم، وأورق به كل غصن يابس وأزهر، وأثمر.
وُلِـدَ
الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ وَفَـمُ
الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ
الـروحُ
وَالـمَـلَأُ الـمَلائِكُ حَولَهُ لِـلـديـنِ وَالـدُنـيـا بِهِ بُشَراءُ
وَالـعَـرشُ
يَزهو وَالحَظيرَةُ تَزدَهي وَالـمُـنـتَـهى
وَالسِدرَةُ العَصماءُ
وَحَـديـقَـةُ
الفُرقانِ ضاحِكَةُ الرُبا بِـالـتُـرجُـمانِ
شَـذِيَّةٌ غَنّاءُ
وَالـوَحيُ
يَقطُرُ سَلسَلاً مِن سَلسَلٍ وَالـلَـوحُ
وَالـقَـلَـمُ البَديعُ رُواءُ
نُـظِمَت أَسامي
الرُسلِ فَهيَ صَحيفَةٌ فـي الـلَـوحِ
وَاِسمُ مُحَمَّدٍ طُغَراءُ
اِسـمُ
الـجَـلالَةِ في بَديعِ حُروفِهِ أَلِـفٌ
هُـنـالِـكَ وَاِسمُ طَهَ الباءُ
يـا خَـيـرَ مَن
جاءَ الوُجودَ تَحِيَّةً مِـن
مُرسَلينَ إِلى الهُدى بِكَ جاؤوا
فكل ما يوجد في
هذا العالم من خير، هو من فضل البعثة المحمدية، وقال شاعر الإسلام د. محمد إقبال
كما ذكر الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي: «لقد هبت نفحة من نفحات محمد النبي
الأمي عليه الصلاة والسلام، وفاضت قطرة من ماء الحياة من فمه الذي لم يكن ينطق إلا
بالوحي، فنشأت جنات وحدائق، وفاحت روائح عبير من صحراء العرب».
فجعل الله تعالى
محمدًا شاهدًا على الناس أجمعين، بشيرًا ونذيرًا، وسراجًا منيرًا، وجعل سلوكه أقوم
سلوك، وتصرفاته أهدى تصرفات، فكانت حياتُه بذلك مثلاً أعلى، وميزانًا صادقًا، توزن
بها أعمال البشر، وحركات بني آدم، كما كانت حياتُه ترجمة صادقة لكل أمر إلهي، وقد
صدقت أم المؤمنين عائشة في وصف أخلاقه عندما قالت: «كان خُلُقه القرآن».
وإن منن الرسول
صلى الله عليه وسلم على الإنسانية كلها كثيرة لا تعد ولا تحُصى، وإن العالم
المتحضر مدِينٌ لتعاليمه في ميادين كثيرة، وستستمر مآثره وتأثيرها على مسير
العالم، وسيبقى العالم مدِينًا له، وقد بعث في حالة احتضار الإنسانية، ولذلك بقاء
هذه الإنسانية أيضًا مدِيْنٌ له.
فإن السيرة
النبوية غنية في كل جانب من الجوانب التي يحتاجها الإنسان، فالنبي صلى الله عليه
وسلم لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن ترك مثلاً كاملاً لمن يريد أن يقتدي به
في كافة شؤون الحياة، كما أن التعمق في سيرته العطرة يساعد على التعرُّف على
الرصيد الخلقي العظيم الذي تميَّز به عن كل البشر، ويتعرَّف على الأسوة الحسنة
التي عاش بها في دنيا الناس، فيرى من خلال سيرته مصداق قول حسان بن ثابت له عندما
قال:
وَأَحسَن مِنكَ
لَم تَرَ قَطُّ عَيني وَأَجمَل مِنكَ
لَم تَلِدِ النِساءُ
خُلِقتَ
مُبَرَّءًا مِن كُلِّ عَيبٍ كَأَنَّكَ
قَد خُلِقتَ كَما تَشاءُ
فإن السيرة
النبوية معينٌ ثرٌّ، يروي الغليل، ويشفي العليل ،وطودٌ عظيمٌ يؤوي الخائف الضرير،
ويثبت الأقدام، ويربط على القلوب المنخلعة، وبحرٌ زخارٌ يؤتي كل من يقترب منه لآلئ
ودررًا، وفيها بلسم شاف لسائر الجروح التي يصاب بها المسلمون في كل زمان ومكان،
فأعمالُه ووقائعُه تحمل في طياتها توجيهات وإرشادات، ودروسًا وعبًرا، ومنارات نور،
تُنِيرُ لأتباعه الدرب في الحياة، وتُمَهِّد لهم الطريق نحو الفوز في معترك
الحياة، والانتصار على المحن والابتلاءات، ونيل السعادة والنعمة، والرحمة والغلبة،
والعز والشرف.