معبد الإلحاد يهتز (12)
هل أُجبرت السيدة صفية على الزواج من النبي ﷺ بعد ذبح أبيها وزوجها أمام عينيها؟!
قال الله تعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا
رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، هذهِ الرحمةُ النبويةُ هيَ
التي غمرتْ قلبَ صفيَّةَ بنتَ حييٍّ رضي اللهُ عنها، فحوَّلتْ أسيرةَ حربٍ إلى
أمٍّ للمؤمنينَ، اختارتْ الإسلامَ حبًّا ويقينًا، لا قسرًا ولا إذلالًا.
ومما ابتلينا به
في عصر وسائل التواصل الاجتماعي أن يكتب أي ملحد تخرصات غير معقولة، وينشرها في
الشبكة العنكبوتية للنَّيْل من الإسلام ومن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد قرأتُ
شبهاتِ مقالِ الملحد المدعو «أبو لهب»، حول السيدة صفية بنت حيي.
الشبهة الأولى:
زواجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من صفيَّةَ «اغتصابٌ قسريٌّ» مدفوعٌ بالشهوةِ
والإذلالِ السياسيِّ!
يصوِّرُ المقالُ
الزواجَ كـ«وطءٍ» جاهليٍّ لإذلالِ العدوِّ، مستبعدًا الدافعَ الإنسانيَّ.
لكنَّ الرواياتِ
الأصيلةَ تُفنِّدُ ذلكَ تفنيدًا قاطعًا، ففي سيرةِ ابنِ هشامَ وطبقاتِ ابنِ سعدَ:
خيَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم صفيَّةَ صراحةً: «اختاري، فإن اخترتِ الإسلامَ
أمسكتُكِ لنفسي، وإن اخترتِ اليهوديةَ فعسى أن أعتقكِ فتلحقي بقومكِ»، فردَّتْ رضي
اللهُ عنها: «يا رسولَ اللهِ، لقد هويتُ الإسلامَ وصدَّقتُ بك قبل أن تدعوني،
واللهُ ورسولُهُ أحبُّ إليَّ من العتقِ وأن أرجعَ إلى قومي»، هذا الاختيارُ الحرُّ
يُثبتُ عدمَ القسرِ، خاصَّةً مع رفضِها الأوَّليِّ للدخولِ بها في «تبار» (ستةُ
أميالٍ من خيبرَ) حتى طهرتْ وأكملتْ عدَّتَها (حيضةً واحدةً كما في ابنِ سعدَ).
فلو كانَ الزواج
قسريًّا، لما خيَّرَها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلًا، فالتناقضُ يُبطلُ
الشبهةَ.
أما تاريخيًّا،
فغزوةُ خيبرَ (7 هـ) دفاعيةٌ، حيث نقضَ يهودُ خيبرَ العهدَ، تحالفوا مع غطفانَ
وقريشَ، وخبأوا كنوزًا.
أعتقَ النبيُّ صلى
الله عليه وسلم صفيَّةَ وجعلَ عتقَها مهرَها: «أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا» (صحيح
البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، 371).
وحجَّبَها صلى
الله عليه وسلم دلالةً على حريتِها كزوجةٍ لا سريةٍ (ابنُ هشامَ)، وضعَ ركبتَهُ
لتركبَ الجملَ (الواقديُّ)، ومقارنةً بعاداتِ العصرِ: في الجاهليةِ والرومانِ
والفرسِ، تُباعُ السبايا أو تُغتصبُ فورًا، أما الإسلامُ حدَّدَ الآتي: عدَّةً،
عدمَ إكراهٍ على الإسلامِ، تحريمَ وطءِ الحاملِ حتى تلدَ.
المقالُ يفرضُ «اغتصابًا»
افتراضيًّا متجاهلاً اختيارَها.
الشبهة الثانية:
صفيَّةُ «ضحيةٌ» أو «خائنةٌ» أو «بطلةٌ تتظاهرُ» بمتلازمةِ ستوكهولم!
يرفضُ المقالُ
إسلامَها الساذجَ، مفترضًا خيانةً/بطولة على غرار أستر/متلازمة.
لكنَّ الرواياتِ
تُثبتُ إسلامَها الصادقَ: روتْ أحاديثَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دافعتْ
عنه صلى الله عليه وسلم: «أبي هارونُ، عمي موسى، زوجي محمدٌ».
قالت رضي الله
عنها في مرضِ موتِهِ صلى الله عليه وسلم: «لوددتُ أنَّ الذي بك بي» (صحيح البخاري،
كتاب المرضى، (5650) جزءًا).
وقد ماتتْ رضي
الله عنها عام 50هـ عن 62 عامًا.
ومن كان هذا
حالها، يستحيل القول: إنها تم إجبارها على شيء.
تفنيدُ احتمالات الشبهة
أولًا: الخيانةُ
مستبعدةٌ؛ نشأتْ رضي الله عنها في بيتِ زعامةٍ يهوديةٍ، والدُها حييٌّ ماتَ مصرًّا
على دينِهِ، ورباطةُ جأشِها أمامَ القتلى تنفي الضعفَ.
البطولةُ: يفترض
مقال الملحد أن السيدة صفية تزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تقتله وتنتقم
لوالدها؛ ويشبه الافتراض المزعوم بما فعلته أستر مع ملكِ فارسَ، والواقع لا علاقةَ
للسيدة صفية بخيبرَ.
يهودُ خيبرَ
بقوا بفضلِ الصلحِ لا بسبب زواجِها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما متلازمةُ
ستوكهولم:
وفق دراسةُ Cantor & Price (2007م) تتطلبُ رهينةً + خطرًا مستمرًّا + عزلةً.
أما السيدة صفية
رضي الله عنها أُعتقتْ فورًا، وعاملَها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلطفٍ
وبينما متلازمة
ستوكهولم نادرةٌ (أقلُّ من 8%، FBI data)، وتزولُ
بعدَ الإنقاذِ.
أما السيدة صفية
رضي الله عنها فقد عاشتْ أكثر من 40 عامًا تدافعُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الشبهة الثالثة:
النبيُّ صلى الله عليه وسلم شرَّعَ السبيَ للإذلالِ غريزيًّا، متبعًا عاداتِ
عصرهِ!
قال الله تعالى:
(فَإِذَا انسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ
وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا
وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 5)، ثمَّ: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) (محمد: 4).
الترتيبُ
القرآنيُّ واضحٌ: قتالٌ، توبةٌ، منٌّ أو فداءٌ، (إن بقيَ) سبيٌ.
وبالنظر في
حديثُ المنِّ في بدرٍ نجد: عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه قال: لما أُسِرَ
أسارى بدرٍ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كَانَ مُطْعِمُ بْنُ
عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ الْأَسَارَى لَأَطْلَقْتُهُمْ
لَهُ» (صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة بدر، 4023).
عفوٌ مشروطٌ
بالمنِّ، لا إذلالٌ.
النبيُّ صلى
الله عليه وسلم حرَّرَ عشراتِ الآلافِ من السبايا، وعمليًّا ألغى السبيَّ في أغلبِ
الحالات:
فتح مكة:
عن
ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: «أَعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ
الْفَتْحِ سِتَّةَ آلَافٍ مِنَ الرِّقَابِ» (سيرة ابن هشام، ج4، ص58؛ وصحَّحه
الحاكم في المستدرك، 3/ 75).
زواج جويرية:
عن
عائشةَ رضي الله عنها: «تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَأَعْتَقَ بِسَبَبِهَا مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَمَا
أَعْلَمُ امْرَأَةً أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا» (صحيح البخاري،
كتاب النكاح، باب العتق بالزواج، 5210)،
حُنين:
عن أنسٍ
رضي الله عنه: «أَعْتَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ سِتَّةَ
آلَافٍ مِنْ هَوَازِنَ» (صحيح مسلم، كتاب الجهاد، باب المنّ على الأسارى، 1756).
أما حديثُ
العزلِ في بني المصطلقِ الذي يستشهد به الملحد ليس إباحةَ إذلالٍ، بل تنظيمٌ شرعي.
عن أبي سعيدٍ
الخدريِّ رضي الله عنه: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَنِي
الْمُصْطَلِقِ فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ سَبْيِ الْعَرَبِ، فَاشْتَهَيْنَا
النِّسَاءَ وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ، وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ،
فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْعَزْلِ فَقَالَ: مَا
عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، مَا كَتَبَ اللَّهُ خَلْقَ نَسَمَةٍ إِلَّا
سَتَكُونُ» (صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب العزل (5208)، وصحيح مسلم (1438)).
السؤالُ عن
العزلِ (منع الحمل) لا عن جوازِ الوطءِ؛ فالوطءُ كانَ مشروطًا بالعدَّةِ وملكِ
اليمينِ، والجوابُ يؤكِّدُ القدرَ لا يشجِّعُ على الإكثارِ من السبي.
تحريمُ قتلِ
النساءِ والصبيانِ.. نفيُ الغريزةِ الحيوانيةِ: عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما:
«وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمَغَازِي فَكَرِهَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» (صحيح البخاري،
كتاب الجهاد، باب كراهية قتل النساء والصبيان (3014)؛ ومسلم (1744)).
في الجاهليةِ
كانتِ النساءُ تُقتلُ أو تُستَعبَدُ فورًا؛ لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم
حرَّمَ قتلَهنَّ.
المقالُ يدَّعي:
السبيُ = إذلالٌ غريزيٌّ.
والواقع يُثبت: السبيُ
= آخرُ خيارٍ + تحريرٌ جماعيٌّ + تحريمُ قتلِ النساء.
من الناحية التاريخية:
الرومانُ سبوا ملايينَ النساء وذبحوهن، والمغولُ ذبحوا ثمَّ سبوا، والصليبيون
ذبحوا واغتصبوا وأحرقوا ملايين السيدات.
بينما الإسلامُ
العظيم: حرّم قتلِ النساءِ والأطفالِ، وفرض عدَّةٌ للمرأة.
الشبهة الرابعة:
السياقُ التاريخيُّ يبرِّرُ الشكَّ في صدقِ صفيَّةَ رضي الله عنها «كيف تقبلُ
قاتلَ أهلِها بعد مذابحِ قريظةَ وتهجيرِ النضيرِ وقينقاعَ؟»
المقال: يصوِّرُ
الأحداثَ كـ«مذابحَ عشوائيةٍ» و«إبادةٍ جماعيةٍ»، فيستحيلُ - منطقيًّا - أن
تُسلِمَ صفيَّةُ صادقةً لقاتلِ والدِها وزوجِها وعمومتِها، بل لا بدَّ أنها
«خائنةٌ» - خانت قومها - أو «مُكرَهةٌ» أو «مُتظاهرةٌ».
والأحداثُ
الثلاثةُ ليستْ مذابحَ، بل أحكامٌ دفاعيةٌ بعد نقضِ العهودِ- كلُّها مُسَبَّبةٌ
شرعيًّا.
فيما يخص بنو
قينقاع: نقضُ العهدِ، تحالفُهم مع قريشٍ، إهانةُ امرأةٍ مسلمةٍ في سوقِهم
فكانت النتيجة
حصار 15 يومًا ثم تهجيرٌ إلى أذرعاتَ (الشام).
عن ابنِ إسحاقَ:
«فَلَمَّا نَقَضُوا عَهْدَهُمْ حَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
حَتَّىٰ أَسْلَمُوا أَمْرَهُمْ، فَأَجْلَاهُمْ إِلَىٰ أَذْرِعَاتَ» (سيرة ابن
هشام، ج2، ص47).
أما بنو النضير:
فكانت جريمتهم مؤامرةُ اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إلقاءُ حجرٍ من
السطحِ).
عن ابنِ عمرَ
رضي الله عنهما: «أَرَادَتْ بَنُو النَّضِيرِ أَنْ يُلْقُوا عَلَىٰ رَأْسِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَرًا مِنْ سَطْحٍ، فَأَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ،
فَخَرَجَ وَحَاصَرَهُمْ حَتَّىٰ أَجْلَاهُمْ» (صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب
إجلاء النضير، حديث رقم 4029).
وبنو قريظة: نقضُ
العهدِ في غزوةِ الخندقِ، تحالفُهم مع الأحزابِ لقتلِ أهلِ المدينةِ.
عن عائشةَ رضي
الله عنها: «لَمَّا نَقَضَتْ قُرَيْظَةُ عَهْدَهُمْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم بِحِصَارِهِمْ، فَحَكَمَ فِيهِمْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَنْ
تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَىٰ ذَرَارِيُّهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله
عليه وسلم: لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ»
(صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب حصار قريظة (4121)، ومسلم (1768)).
فلو كانتْ هذه
الأحداث مذابحَ عشوائيةً، لما اشترطَ القرآنُ الكريم للحرب معهم نقضَ العهدِ أو
القتالَ أولاً.
الرواياتُ تُثبتُ السببَ
صدق السيدة
صفيَّةُ رضي الله عنها: لقد شهدتْ صدقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلَ
الزواجِ.
عن صفيَّةَ بنتَ
حييٍّ رضي الله عنها: «رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ قَمَرًا مِنَ الْمَدِينَةِ
وَقَعَ فِي حُجْرِي، فَقَصَصْتُهُ عَلَىٰ زَوْجِي كِنَانَةَ، فَقَالَ: مَا
تُرِيدِينَ إِلَّا مَلِكَ يَثْرِبَ؟ فَلَطَمَنِي لَطْمَةً شَدِيدَةً، فَأَثَّرَتْ
فِي وَجْهِي حَتَّىٰ بَرِأَتْ بَعْدَ أَيَّامٍ» (سيرة ابن هشام، ج3، ص327؛ وطبقات
ابن سعد، ج8، ص122؛ وصحَّحه الحاكم في المستدرك 4/31).
هذا الحلمُ قبلَ
غزوةِ خيبرَ بسنواتٍ، يُثبتُ أنَّها رأتْ في النبيِّ صلى الله عليه وسلم نورًا
إلهيًّا، لا عدوًّا وكان اختيارُها الحرُّ مُوثَّقٌ في أكثرَ من عشرِ رواياتٍ، لا
إكراهَ في زواجها من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روايةُ الاختيارِ الأولى:
عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه: «خَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فَقَالَ: اخْتَارِي، فَإِنْ اخْتَرْتِ الْإِسْلَامَ أَمْسَكْتُكِ
لِنَفْسِي، وَإِنْ اخْتَرْتِ الْيَهُودِيَّةَ أَعْتَقْتُكِ فَتَلْحَقِي
بِقَوْمِكِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ هَوِيتُ الْإِسْلَامَ
وَصَدَّقْتُ بِكَ قَبْلَ أَنْ تَدْعُوَنِي، وَمَا لِي فِي الْيَهُودِيَّةِ
حَاجَةٌ، وَمَا لِي فِيهَا أَبٌ وَلَا أَخٌ، وَخَيَّرْتَنِي بَيْنَ الْكُفْرِ
وَالْإِسْلَامِ، فَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْعَتَاقَةِ وَأَنْ
أَرْجِعَ إِلَىٰ قَوْمِي» (سيرة ابن هشام، ج3، ص329؛ وطبقات ابن سعد، ج8، ص123؛
وصحَّحه الذهبي في السير 2/243).
روايةُ الاختيارِ الثانية (مُسلسلةٌ):
عن الزهريِّ عن عروةَ عن عائشةَ رضي الله عنها:
«فَلَمَّا أَسَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: أَيْنَ
تُحِبِّينَ أَنْ تَكُونِي؟ فَقَالَتْ: عِنْدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» (مغازي
الواقدي، ج2، ص678).
وهكذا تتهاوى
شبهاتُ هذا الملحد الأثيم أمامَ نورِ الحقيقةِ الساطعةِ، وتبقى سيرةُ سيدِ الخلقِ صلى
الله عليه وسلم ناصعةً كالشمسِ في رابعةِ النهارِ.
فالقضيةُ ليست
زواجًا سياسيًّا، ولا غلبةَ سيفٍ، بل تجلٍّ من تجلياتِ الرحمةِ المحمديةِ التي
حوّلتِ الأسرَ إلى حريةٍ، والعداءَ إلى مودةٍ.
لقد آمنتْ
السيدة صفيّةُ رضي اللهُ عنها بقلبٍ حرٍّ، وعاشتْ بقلبٍ عاشقٍ للهِ ورسولِه.
فأيُّ عظمةٍ تلك
التي تُخرجُ من قلبِ الحربِ أمًّا للمؤمنين؟ وأيُّ رحمةٍ تلك التي تمسحُ جراحَ
الأسيرةِ بحنوٍّ نبويٍّ عجيبٍ؟
لقد سقطتْ
أقنعةُ الافتراءِ، وبقيَ التاريخُ يُحدّثُ عن نبيٍّ رحيمٍ، وعدوٍّ صارَ وليًّا،
وأُسرةٍ تحوّلتْ إلى بيتِ إيمانٍ.
ذلكم هو
الإسلامُ العظيمُ الذي جاءَ ليحرّرَ الإنسانَ من أسرِ الهوى، لا ليأسرهُ في ظلماتِ
الشكِّ والكراهية.
وسيبقى سيدنا
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، ما تعاقبَ الليلُ والنهارُ.