من التمرد إلى الإبادة.. القصة الكاملة لما يجري في السودان

ناجي الكرشابي

16 نوفمبر 2025

363

منذ منتصف أبريل 2023م، يعيش السودان حرباً هي الأعنف في تاريخه الحديث، بعدما تحوّل الخلاف بين الجيش وقوات «الدعم السريع» المتمردة إلى صراع شامل ألقى بظلاله على معظم ولايات البلاد، وأنتج أكبر موجة نزوح إنساني في العالم، وللقارئ العربي غير المتابع، يقدّم هذا التقرير خلاصة مركّزة لما جرى، وكيف بدأ التمرد، وكيف تحول إلى حرب إبادة ودمار واسع.

لفهم ما يجري، وكيف تحوّلت إلى مواجهة مسلحة بين الجيش ومليشيا «الدعم السريع» إلى حرب إبادة وتطهير عرقي، لا بد من العودة إلى بداية القصة.

جذور الأزمة.. «الدعم السريع» من جهاز أمني إلى قوة موازية للدولة

تشكّلت قوات «الدعم السريع» خلال عهد الرئيس السابق (المخلوع) عمر البشير لمواجهة التمرد في دارفور، ثم تمت تقويتها من قبل حكومة عبدالله حمدوك لاحقاً كقوة نظامية اسماً، لكنها بقيت خارج السيطرة الفعلية للجيش، خاضعة لقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي تمكّن من بناء شبكات نفوذ داخلية وخارجية مستفيداً من موارد ضخمة أبرزها مناجم الذهب.

«الفاشر» واحدة من أبرز محطات الحرب وأكثرها دموية

بدأت جذور الأزمة من مرحلة ما بعد سقوط نظام البشير عام 2019م، حين برز ملف دمج قوات «الدعم السريع» داخل الجيش ضمن مشروع الإصلاح الأمني، فالجيش كان يرى في الدمج خطوة ضرورية لاستعادة وحدة الدولة وهيبتها، بينما رفض حميدتي بشدة إخضاع قواته للقيادة العامة، معتبراً أن استقلاليتها ضرورة، مستنداً إلى نفوذ اقتصادي واسع وشبكات خارجية وفّرت له قوة سياسية وعسكرية موازية للدولة.

ومع تصاعد الخلافات بين الطرفين، وصل التوتر إلى لحظة الانفجار، في 15 أبريل 2023م، عندما هاجمت قوات «الدعم السريع» مقر إقامة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة، داخل القيادة العامة في محاولة لاغتياله؛ أدى الهجوم إلى مقتل 36 من حرسه، بينما استمر الاشتباك ساعات طويلة في قلب العاصمة.

مقتل عشرات الآلاف وتشريد نحو 10 ملايين شخص

وفي اللحظات نفسها، تمددت «الدعم السريع» بسرعة مذهلة داخل الخرطوم، فاحتلت القصر الجمهوري، ومطار الخرطوم، ومباني الإذاعة والتلفزيون، وعدداً كبيراً من المستشفيات والجامعات والأحياء السكنية، وتحولت هذه المواقع إلى مقرات عسكرية بعد أن جرى طرد الكوادر الطبية والمرضى والسكان منها.

وتحدث شهود وتقارير محلية ودولية عن عمليات نهب واسعة للمحال التجارية والسيارات والمنازل، إضافة إلى اعتداءات على المدنيين واحتلال ممتلكاتهم بالقوة، وأمام ذلك أصدر الجيش السوداني قراراً بحل قوات «الدعم السريع» واعتبارها مليشيا متمردة خارجة عن القانون؛ الأمر الذي نقل البلاد رسمياً إلى حالة الحرب المفتوحة.

لم يقتصر القتال على الخرطوم، بل امتد سريعاً إلى ولايات دارفور وكردفان والجزيرة والنيل الأبيض وشرق السودان، ومع توسع المواجهات، ظهرت أنماط متكررة من الانتهاكات في مناطق سيطرة «الدعم السريع»، شملت عمليات قتل على الهوية، واغتصاباً جماعياً، ونهباً ممنهجاً للبيوت والمتاجر، والاستيلاء على المؤسسات الصحية والتعليمية، وقد وثّقت منظمات حقوقية دولية جرائم وصفت بأنها ترتقي إلى مستوى الإبادة الجماعية، خاصة في غرب دارفور، حيث تعرّضت مجتمعات كاملة لهجمات ممنهجة رافقها حرق للقرى وتصفية جماعية للمدنيين.

المجتمع الدولي فشل بتصنيف «الدعم السريع» منظمة إرهابية

وكانت مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، واحدة من أبرز محطات الحرب وأكثرها دموية، فالمدينة ظلت صامدة خارج سيطرة «الدعم السريع» لأكثر من عام ونصف عام، رغم حصار خانق وهجمات متكررة بلغ عددها نحو 250 هجوماً، وبرغم انقطاع الطرق وغياب الغذاء والدواء، حافظت الفاشر على تماسكها بفضل تواجد الجيش وقوات الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام وقوات الشرطة والمقاومة الشعبية.

لكن أعنف الهجمات وقع في أكتوبر 2025م، حين تمكنت قوات «الدعم السريع» ومرتزقة أجانب من التقدم داخل أجزاء من المدينة، وارتكبت مجازر وعمليات اغتصاب ونهب واسعة، ووصفت منظمات حقوقية تلك الهجمة بأنها واحدة من أبشع الجرائم في العصر الحديث.

الحرب أصبحت ساحة صراع إقليمي ودولي على الموارد خاصة الذهب

وعلى الجانب الآخر، حقق الجيش السوداني تقدماً مهماً في وسط البلاد والخرطوم، فقد تمكنت القوات المسلحة من استعادة أحياء واسعة في العاصمة، وأحرزت تقدماً في الخرطوم بحري وأم درمان، كما أعادت تثبيت وجود الدولة في مدن وسط السودان بعد انسحاب المليشيا من بعضها، وشكلت المقاومة الشعبية عاملاً حاسماً في تلك المعارك، إذ تولت حماية الأحياء وقطع الإمدادات عن المليشيا، وأسهمت في استعادة السيطرة على مناطق عدة.

مقتل عشرات الآلاف وتشريد الملايين

لكن المكاسب الميدانية لم توقف الانهيار الإنساني، فقد تسببت الحرب في مقتل عشرات الآلاف من المدنيين، وتشريد نحو 10 ملايين شخص داخل السودان وخارجه، وهو رقم جعل البلاد تتصدر قوائم النزوح العالمي، وتعطلت أكثر من 80% من المستشفيات، وانهار النظام التعليمي، وتضررت البنية التحتية بدرجة غير مسبوقة، أما الاقتصاد فقد دخل مرحلة الشلل شبه الكامل، مع تراجع الخدمات الأساسية وارتفاع معدلات الجوع والأمراض.

ورغم توثيق حجم الانتهاكات، لم ينجح المجتمع الدولي حتى الآن في اتخاذ موقف حاسم، وفشلت محاولات تصنيف «الدعم السريع» كمنظمة إرهابية، وهو ما أثار تساؤلات واسعة داخل السودان حول طبيعة المصالح الدولية التي تسمح باستمرار الحرب إلى هذا الحد.

استمرار الدعم الخارجي للمليشيا بالسلاح أطال الحرب وعمّق أزمتها

ويجمع محللون سودانيون ودوليون على أن الحرب لم تعد مجرد مواجهة بين الجيش ومليشيا متمردة، بل أصبحت ساحة صراع إقليمي ودولي على موارد البلاد، خاصة الذهب، إضافة إلى شبكات النفوذ الممتدة عبر الحدود، ويقول كثيرون: إن استمرار الدعم الخارجي للمليشيا بالسلاح والمال أحد الأسباب الرئيسة التي أطالت الحرب وعمّقت أزمتها.

ومع ذلك، لا يزال الجيش السوداني والمقاومة الشعبية يقدمان الحرب باعتبارها معركة دفاع عن السيادة ووحدة الدولة في مواجهة مشروع تفكيك البلاد وتحويلها إلى مناطق نفوذ تابعة لقوى متعددة، ويرى عدد من المراقبين أن نتيجة الصراع ستحدد شكل السودان لعقود، وأن بقاء الدولة المركزية مرهون بعودة السلاح إلى يد المؤسسة العسكرية وحدها، وخروج المليشيات من المشهد كلياً.

المعركة دفاع عن السيادة ووحدة الدولة في مواجهة مشروع تفكيك البلاد

معركة وجودية تهدد بقاء الدولة

إن ما يجري في السودان ليس نزاعاً على السلطة ولا صراعاً سياسياً تقليدياً كما تدعي بعض الجهات، وإنما هي معركة وجودية تهدد بقاء الدولة نفسها، ومع اتساع رقعة الدمار واستمرار الصمت الدولي، يظل السودانيون يقاتلون على جبهتين؛ جبهة الحرب، وجبهة الحفاظ على ما تبقى من مقومات الحياة، ورغم قتامة المشهد، يبقى الأمل حاضراً لدى كثيرين بأن البلاد ستنهض من جديد عندما تتوقف الحرب وتستعيد الدولة مؤسساتها، ويبدأ السودانيون رحلة إعادة البناء.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة