وإن عاكسك التيار فاسبح

ما
من داعية صادق إلا وتمرّ به لحظات يرى فيها الباطل ممدود الظلال، والحق خافت
الصوت، والمجتمع من حوله غارق في التبرير، ساكنٌ في مياهه الراكدة، كأن النصح لا
يُسمع، وكأن الكلمات تتبخر قبل أن تبلغ القلوب. ومع ذلك، يمضي لا لأن الريح في
صفه، بل لأن قلبه موصول بالسماء، يردد في سره قبل لسانه: "معذرةً إلى
ربكم".
الدعوة ليست منبرًا وموعظة، ولا موسمًا وخطبة، إنها حياة. الداعية الحقيقي ليس من ينتظر اللحظة المثالية ليقول كلمته، بل من يعيش الكلمة حيثما حلّ، في أسرته، في عمله، في مجتمعه، في سفره، في حديثه العابر، ونصيحته العابرة، وتغريدته القصيرة، وموقفه الصامت. كل ذلك دعوة... وكل ذلك معذرة.
حين ترى الفساد مستشريا في بيئة عملك، والحق محاربًا، ويغلب على ظنك أن كلمتك لن تغيّر شيئًا.. لا تُسكت ضميرك.
قلها
بلين، بلطف، بلحن المؤمن الذي لا يتكلف ولا يتصنع، وامضِ. وإن خشيت أن تُحسب ضد
التيار، فتذكّر أن التيار إن كان باطلاً، فالوقوف في وجهه نجاة، لا مخاطرة.
وكم
من كلمة نُطقت خافتة في غرفة صغيرة فهزّت جبلًا بعد حين، وكم من موقف نُظر إليه
بازدراء وقت حدوثه، ثم أصبح مرجعية أخلاقية حين تغيرت الأمواج.
حين
قال أولئك الناصحون في قوم السبت: (لِمَ تَعِظُونَ
قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ)؟، لم تكن إجابتهم ردًا على استغراب فقط، بل
كانت إجابة للتاريخ وللأمة كلها: (مَعْذِرَةً إِلَىٰ
رَبِّكُمْ). نُبصّرهم، نُحذرهم، نضع حجتنا بين يدي الله، ولو كانت الأرض
صمّاء، والقلوب غافلة، والنتائج معدومة.
إن
الداعية الذي يزرع كلمة خير في بيته رغم الإعراض، ويُصرّ على تربية أبنائه رغم فتن
الشاشات، ويذكّر زملاءه بأخلاق المعاملات رغم الاستهزاء، ويشارك بمقال أو درس أو
موقف أو منشور، وهو يعلم أن الأغلب لا يكترث... هذا الداعية يصنع معذرته، يكتب
صفحته بمداد الصدق، يملأ كتابه بما يُلقى على ميزان الله لا ميزان الناس.
وقد
يغلب على ظنه أن الأرض التي يزرع فيها لن تُنبت، وأن الحصاد بعيد، وأن التيار
أقوى، ولكن الله ما أمرنا بالنتائج، أمرنا بالفعل، وحاسبنا على السعي، لا الثمر.
فربّ بذرٍ صغيرٍ في صحراء قلوبٍ يابسة، تسقيه دمعة في جوف الليل، فينبت يومًا ما
كفجرٍ لم يتوقعه أحد.
"معذرة
إلى ربكم"... ليست مجرد مخرج من الحرج، بل رسالة حياة. كل نصيحة صادقة هي
طُهر يضاف إلى تاريخه، وكل موقف كريم هو لبنةٌ في بناء ما لا نراه الآن، لكنه
يُعدّ هناك، حيث لا تضيع الكلمات، ولا المواقف، ولا الخطى.
فيا
من أثقلتك خيبات التأثير، ووجدت نفسك غريبًا في خطابك، ومخذولًا في دعوتك.. لا
تنكسر.
قلها
وامضِ.. فربك يسمع.. وربك لا يضيع شيئًا.