من يتوكل على الله فهو حسبه.. قصة حاتم الأصم مع التوكل

مجـلة المجتمع

21 سبتمبر 2025

69

حُكي أن حاتم الأصم كان رجلًا كثير العيال، وكان له أولاد ذكور وإناث، ولم يكن يملك حبَّة واحدة، وكان قدمه التوكل، فجلس ذات ليلة مع أصحابه يتحدث معهم، فتعرَّضوا لذكر الحج، فداخل الشوقُ قلبَه، ثم دخل على أولاده، فجلس معهم يحدِّثهم، ثم قال لهم: لو أذنتم لأبيكم أن يذهب إلى بيت ربه في هذا العام حاجًّا، ويدعو لكم، ماذا عليكم لو فعلتم؟ فقالت زوجته وأولاده: أنت على هذه الحالة لا تملك شيئًا ونحن على ما ترى من الفاقة، فكيف تريد ذلك ونحن بهذه الحالة؟

وكان له ابنة صغيرة فقالت: ماذا عليكم لو أذنتم له ولا يهمكم ذلك، دعوه يذهب حيث شاء، فإنه مُناول للرزق، وليس برزاق، فذكّرتهم ذلك، فقالوا: صَدَقَتْ واللهِ هذه الصغيرةُ، يا أبانا، انطلق حيث أحببت، فقام من وقته وساعته وأحرم بالحج، وخرج مسافرًا، وأصبح أهل بيته يدخل عليهم جيرانهم يوبِّخونهم كيف أذنوا له بالحج، وتأسَّف على فراقه أصحابه وجيرانه، فجعل أولاده يلومون تلك الصغيرة ويقولون: لو سكتِّ ما تكلمنا، فرفعت الصغيرة طرفها إلى السماء، وقالت: إلهي وسيدي ومولاي، عوَّدت القوم بفضلك وأنك لا تضيعهم فلا تخيبهم، ولا تخجلني معهم.

فبينما هم على هذه الحالة إذ خرج أمير البلدة متصيدًا، فانقطع عن عسكره وأصحابه، فحصل له عطش شديد، فاجتاز بيتَ الرجل الصالح حاتم الأصم، فاستسقى منهم ماءً، وقرع الباب فقالوا: من أنت؟ قال: الأمير ببابكم يستسقيكم، فرفعت زوجة حاتم رأسها إلى السماء وقالت: إلهي وسيدي، ‌سبحانك ‌البارحة ‌بتنا جياعًا، واليوم يقف الأمير على بابنا يستسقينا، ثم إنها أخذت كوزًا جديدًا وملأته ماءً، وقالت للمتناول منها: اعذرونا، فأخذ الأمير الكوز وشرب منه، فاستطاب الشرب من ذلك الماء فقال: هذه الدار لأمير؟ فقالوا: لا والله، بل لعبد من عباد الله الصالحين يُعرف بحاتم الأصم.

فقال الأمير: لقد سمعت به، فقال الوزير: يا سيدي، لقد سمعت أنه البارحة أحرم بالحج وسافر ولم يخلف لعياله شيئًا، وأُخبرت أنهم البارحة باتوا جياعًا، فقال الأمير: ونحن أيضًا قد ثقلنا عليهم اليوم، وليس من المروءة أن يُثقل مثلنا على مثلهم، ثم حل الأمير منطقته من وسطه ورمى بها في الدار، ثم قال لأصحابه: من أحبني، فليلق منطقته، فحل جميع أصحابه مناطقهم ورموا بها إليهم، ثم انصرفوا.

فقال الوزير: السلام عليكم أهل البيت، لآتينكم الساعة بثَمن هذه المناطق، فلما أنزل الأمير رجع إليهم الوزير، ودفع إليهم ثَمن المناطق مالًا جزيلًا واستردَّها منهم، فلما رأت الصبية الصغيرة ذلك بكت بكاء شديدًا، فقالوا لها: ما هذا البكاء؟ إنما يجب أن تفرحي، فإن الله قد وسّع علينا، فقالت: يا أم، والله إنما بكائي كيف بتنا البارحة جياعًا، فنظر إلينا مخلوق نظرة واحدة، فأغنانا بعد فقرنا، فالكريم الخالق إذا نظر إلينا لا يكلنا إلى أحد طرفة عين، اللهم انظر إلى أبينا، ودبره بأحسن التدبير، هذا ما كان من أمرهم.

وأما ما كان من أمر حاتم أبيهم، فإنه لما خرج مُحْرِمًا ولحق بالقوم توجع أمير الركب، فطلبوا له طبيبًا، فلم يجدوا، فقال: هل من عبدٍ صالح، فدُلَّ على حاتم، فلما دخل عليه وكلَّمه دعا له فعوفي الأمير من وقته، فأمر له بما يَرْكَب، وما يَأْكُل، وما يَشْرَب، فنام تلك الليلة مفكرًا في أمر عياله، فقيل له في منامه: يا حاتم، من أصلح معاملته معنا أصلحنا معاملتنا معه، ثم أُخْبِر بما كان من أمر عياله، فأكثر الثناء على الله تعالى، فلما قضى حَجَّه ورجع تَلَقَّته أولاده، فعانق الصبيَّة الصغيرة وبكى، ثم قال: صغار قوم كبار قوم آخرين. إن الله لا ينظر إلى أكبركم ولكن ينظر إلى أعرفكم به، فعليكم بمعرفته والاتكال عليه فإنه من توكل على الله فهو حسبه. (المستطرف في كل فن مستظرف).

معاني الكلمات

  • التوكل: الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار مع الأخذ بالأسباب.
  • الفاقة: الفقر والحاجة الشديدان.
  • مُناول للرزق: هو الوسيط أو الشخص الذي يوصّل الرزق، أما الرزاق الحقيقي فهو الله تعالى.
  • يوبِّخونهم: يعيبون عليهم وينتقدونهم توبيخًا.
  • تأسَّف: ندم وتحسّر.
  • يلومون: يعاتبون ويُظهرون اللوم والعتاب.
  • عوَّدت القوم بفضلك: جعلتهم يعتادون على فضلك وإحسانك.
  • متصيدًا: ذاهبًا للصيد.
  • استسقى: طلب الماء ليشرب.
  • كوزًا: إناءً للشرب، كالكوب أو القدح، غالبًا من الفخار.
  • استطاب: وجد طعمه طيبًا وأعجبه.
  • منطقة: حزام يلبس حول الوسط، وكانت تُصنع أحيانًا من الجلد الثمين وتُزين بالذهب والفضة.
  • توجع: اشتكى من الألم أو المرض.
  • فعوفي: شُفي وعوفي من مرضه.
  • معاملته: تعبير صوفي يشير إلى كيفية تعامل العبد مع ربه من خلال الطاعة والثقة والتوكل.
  • حسبه: كافيه.
  • صغار قوم كبار قوم آخرين: مثل يُضرب أن الصغير في السن أو المكانة قد يكون عظيمًا في الفهم والحكمة عند الله.
  • أعرفكم به: أكثركم معرفة بالله تعالى وصفاته.

دروس وعبر

أولًا: الدروس والفوائد الدينية والعقدية:

1- التوكل على الله حق التوكل: الدرس الأساسي في القصة هو التوكل الحقيقي على الله الذي لا ينافي الأخذ بالأسباب، فحاتم خرج للحج دون أن يملك قوتًا ليومه، معتمدًا على رزق الله، فكفاه الله هم دنياه.

2- أن الرزاق هو الله وحده: تأكيد على أن البشر كلهم (بمن فيهم الملوك والأمراء) هم مجرد مناولين للرزق، أما الخالق الرزاق فهو الله تعالى. قول الطفلة: «فإنه مُناول للرزق، وليس برزاق» يلخص هذه العقيدة.

3- الإخلاص في الدعاء ورفعه إلى الله مباشرة: كل من الزوجة والابنة الصغيرة رفعا بصرهما إلى السماء وطلبا من الله مباشرة، دون يأس، وهذا دليل على قوة اليقين.

4- جزاء الصبر والثقة بالله: صبر العائلة على الفقر وثقتهم بربهم كانت سببًا في فرج كربهم ومكافأتهم من حيث لا يحتسبون.

5- قيمة الدعاء: دعاء الأب الحاج المستجاب لأولاده، ودعاء الابنة الصغيرة الذي استُجيب في الحال.

ثانيًا: الدروس والفوائد الاجتماعية والأسرية:

1- التشاور داخل الأسرة (الشورى الأسرية): استشارة حاتم لأسرته قبل السفر للحج نموذج للعلاقة الأسرية القائمة على الاحترام المتبادل وليس الاستبداد بالرأي.

2- دور الطفل في الأسرة: تظهر القصة أن الحكمة والعقلانية ليست محصورة في الكبار، الابنة الصغيرة كانت «صغار قوم كبار قوم آخرين»، حيث قدمت الرأي الأصوب والأكثر نضجًا وإيمانًا.

3- التضامن الاجتماعي السلبي تمثّل في موقف الجيران الذين «يوبخونهم»، وهو رمز لضغط المجتمع السلبي ونقدهِ القاسي الذي لا يقدم حلًّا، والإيجابي تمثّل في موقف الأمير وحاشيته، وهو رمز لدور المجتمع القوي في مساعدة الضعيف، وإن كان بدافع من كرم الله عليهم أولًا.

4- العلاقة بين الجيران: تظهر القصة تداخل حياة الجيران واهتمامهم ببعضهم البعض، حتى في أدق التفاصيل.

ثالثًا: الدروس والفوائد الأخلاقية والتربوية:

1- الحكمة والفطنة: الحكمة لا تعتمد على السن أو الجنس، الابنة الصغيرة قدمت حجة عقلانية ودينية قوية أقنعت الجميع.

2- الصبر وعدم اليأس: لم تيأس العائلة من رحمة الله رغم شدة فقرهم.

3- التواضع: تواضع الأمير عندما وقف على باب دار رجل فقير وطلب الماء، وتواضعه في قبول الدعاء من رجل صالح.

4- العفة والشرف: رغم فقرهم، قدّموا الماء للأمير في «كوز جديد»؛ تعظيمًا له، واعتذروا عن قلة ما لديهم؛ ما يدل على كرم النفس وشرفها.

5- الاعتراف بالفضل والفضيلة: اعتراف الإخوة بخطئهم واعترافهم بأن أختهم الصغيرة كانت على صواب.

رابعًا: الدروس والفوائد السياسية والقيادية:

1- العدالة والكرم بوصفها صفة للحاكم: لم يكتفِ الأمير بشرب الماء، بل شعر بمسؤوليته تجاه هذه الأسرة المتواضعة، فكافأهم بكرم كبير.

2- التأثر بالصالحين: الحاكم الحقيقي هو من يحترم العلماء والصالحين ويقدرهم، كما فعل الأمير عندما سمع باسم حاتم الأصم.

3- القيادة بالقدوة: عندما ألقى الأمير منطقته، حذا حذوه جميع أصحابه؛ ما يدل على قوة تأثيره وقيادته بالقدوة.

ختامًا، القصة عبارة عن منظومة متكاملة من القيم الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية، تذكر المؤمن بأن قلبه يجب أن يكون مربوطًا بالله وحده، وأن يفعل الأسباب ويأخذ بها، ثم يتوكل على الكريم الذي بيده خزائن كل شيء.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة