9 أخلاقيات للحروب.. كيف غيَّر النبي ﷺ مفهوم القتال؟

ارتبط التاريخ
البشري بالحروب والصراعات التي ارتبطت بالبطش والتدمير والقتل، واستمرت تلك
الأوضاع حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليغير المفاهيم، ويقدم نموذجاً فريداً
لأخلاقيات الحروب، حيث قام هذا النموذج على مبادئ الرحمة والعدل والإنسانية، ووضع
قوانين ومبادئ تجعل القتال استثناء، والأصل هو السلم.
والمتأمل في
تاريخ غزوات النبي صلى الله عليه وسلم يدرك أن الغزو لم يكن للتوسع الجغرافي، بقدر
ما كان حماية للدين ودفاعاً عن أهله الذين يتعرضون للاضطهاد، وكذلك لنشر الإسلام
الذي يقف البعض دون الدعوة إليه، ومع تلك الضرورات، فقد وضع الحدود والشروط لخوض
معاركه، ومن هذه الشروط والأخلاقيات:
أولاً: الحرب في الإسلام ضرورة وليست غاية:
الإسلام لم يشرع
الحرب ابتداء، وإنما قيدها بالضرورة الدفاعية، قال تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)
(البقرة: 190)، وجاء في صحيح مسلم، عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان يقول: «اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا
تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، ولا أصحاب الصوامع» (رواه الإمام أحمد)(1).
ثانياً: تحريم قتل غير المقاتلين:
من أبرز وصايا
النبي صلى الله عليه وسلم في الحروب النهي عن قتل الأبرياء، فقد قال صلى الله عليه
وسلم: «لا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأة» (سنن أبي داود)،
وتلك الأخلاقيات لم يعرفها العالم إلا بعد اتفاقيات جنيف عام 1949م، بينما قررها
النبي صلى الله عليه وسلم منذ القرن السابع الميلادي.
ويروى الطبري في
«تاريخه» أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أوصى جيوش الشام بما تعلمه من نهج النبي
صلى الله عليه وسلم: «لا تقتلوا امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً».
ثالثاً: الوفاء بالعهد:
كان النبي صلى
الله عليه وسلم من أكثر الناس وفاء بالعهود حتى مع الكافرين، وكان يرفض الغدر حتى
مع الأعداء، قال تعالى: (وَالْمُوفُونَ
بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ
وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُتَّقُونَ" (البقرة: 177)، ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أدِّ
الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (سنن الترمذي).
ومن مواقف
الوفاء مع الكفار، وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي البختري بن هشام الذي وقف
في وجه قريش وعمل على نقض الصحيفة، ودافع عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه،
فلم ينس النبي صلى الله عليه وسلم هذا الموقف، وأراد أن يردَّ إليه الجميل في غزوة
«بدر»، ففي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «إني قد عرفت
أن رجالًا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهًا، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي
أحدًا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البَخْتَرِي بن هشام فلا يقتُله، ومن
لقي العباس بن عبدالمطلب فلا يقتله، فإنه إنما أخرج مستكرهًا»(2).
رابعاً: عدم التمثيل بجثث القتلى:
قال صلى الله
عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا
قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ،
وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» (رواه مسلم)؛ وبهذا
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التمثيل بجثث القتلى.
وقد روى عبدالله
بن زيد قال: «نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النُّهْبَى، وَالمُثْلَةِ»
(رواه البخاري)؛ والنُّهْبَى: أَخذ المرء ما ليس له جهارًا، والمُثْلَة: التنكيل
بالمقتول، بقطع بعض أعضائه.
وقال عمران بن
الحصين: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ،
وَيَنْهَانَا عَنِ المُثْلَةِ» (أبو داود وغيره)، وبالرغم مما حدث في غزوة «أحد»
من التمثيل بجثمان حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه، فإن المسلمين لم يردوا بالمثل،
بل وهدد الصحابة من فعل ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا، وَإِمَامُ
ضَلاَلَةٍ، وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْـمُمَثِّلِينَ» (رواه أحمد).
خامساً: عدم التعدي على البيئة والممتلكات المدنية:
قال النبي صلى
الله عليه وسلم: «لا تقطعوا شجراً مثمراً، ولا تخربوا عامراً»(3)، وصدق
الله عز وجل حين قال محذراً من ظهور الكافرين على المؤمنين: (كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا
عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ يُرْضُونَكُم
بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة: 8).
سادساً: عدم قتل الشيوخ والنساء والأطفال:
كان النبي صلى
الله عليه وسلم يوصي قادة الجند بالتقوى ومراقبة الله تعالى ليدفعهم إلى الالتزام
بأخلاق الحروب، ومن ذلك أنه يأمرهم بتجنب قتل الولدان؛ فيروي بريدة فيقول: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصة
نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، وكان مما يقوله: «.. ولا تقتلوا وليداً..»
(رواه مسلم) وفي رواية أبي داود: «ولا تقتلوا شيخاً فانيًا، ولا طفلاً، ولا صغيراً،
ولا امرأة..».
سابعاً: عدم قتل المتعبدين:
وقد أخبر ابن
عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه يقول لهم: «لا تقتلوا أصحاب
الصوامع»، وكانت وصيته للجيش أثناء خروجه كما قال ابن عباس أنه قال: كانَ رسولُ
اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إذا بَعثَ جيوشَهُ قالَ: «اخرُجوا باسمِ
اللَّهِ قاتِلوا في سبيلِ اللَّهِ من كفرَ باللَّهِ، ولا تعتَدوا، ولا تغلُّوا، ولا
تُمَثِّلوا، ولا تقتُلوا الوِلدانَ، ولا أصحابَ الصَّوامعِ» (رواه أحمد).
ثامناً: عدم الإفساد في الأرض(4):
فلم تكن حروب
المسلمين حروب تخريب كالحروب المعاصرة التي يحرص فيها المتقاتلون من غير المسلمين
على إبادة مظاهر الحياة لدى خصومهم، بل كان المسلمون يحرصون أشد الحرص على الحفاظ
على العمران في كل مكان، لو كان ببلاد أعدائهم، وظهر ذلك واضحاً في كلمات أبي بكر
الصديق رضي الله عنه عندما وصى جيوشه المتجهة إلى فتح الشام، وكان مما جاء فيها: «ولا
تفسدوا في الأرض»، وهو شمول عظيم لكل أمر حميد، وجاء أيضاً في وصيته: «ولا تُغرقُن
نخلاً ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة، ولا شجرة تثمر، ولا تهدموا بيعة».
تاسعاً: الإنفاق على الأسير:
ومن رحمة
الإسلام وعظمته أن يجعل للأسير باباً من أبواب الصدقات والزكاة المفروضة على
المسلمين، حيث إن الإنفاق على الأسير من الأعمال الصالحة التي يثاب عليها المسلم،
وذلك بحكم ضعف الأسير وانقطاعه عن أهله وقومه، وشدة حاجته للمساعدة، وقد قرن
القرآن الكريم بِر الأسير ببر اليتامى والمساكين، فقال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ
حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (الإنسان: 8).
___________________
(1) تفسير
الحافظ ابن كثير.
(2) تاريخ
الطبري، تاريخ الأمم والملوك (2/ 34)، السيرة النبوية لابن هشام (3/ 177).
(3) وصايا أبي
بكر لجيوش الشام، الطبري، تاريخ الأمم والملوك.
(4) أخلاق
الحروب في الإسلام للدكتور راغب السرجاني.