حتى يكون الصبر عبادة
 
                    في أوقات المحن
والأزمات التي تمر بها الأمة، يكثر اللغط والجدال حول مسألة الصبر وانتظار الفرج،
وما إذا كان موقف سلبي يكون دلالة على الضعف والركون للباطل وهوان الأمة ووهنها؟ أم
أنه موقف إيماني تعبدي يرفع من قدر المسلم عند ربه؟ 
وتختلف الإجابات
باختلاف الفهم لقيمة الصبر وكيفيته وإدراك ماهيته، فمنهم من يحتج بالنصوص مجردة
دون المفهوم الشامل للصبر على الاكتفاء به، ومنهم من يعي مقصد النص الشرعي ليؤكد أهمية
الصبر في مراحل الابتلاء المختلفة، ليكون الصبر دافعاً كقوة روحية وأخلاقية تضبط
سلوك الأفراد والأمم نحو المقاومة والبناء ومعاني الخير مجتمعة، تصديقاً لقول الله
تعالى: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ) (البقرة: 153).
فالصبر والصلاة أدوات ربانية يستعين بها المسلم على أداء مهامه، وليست هي الغايات في حد ذاتها، فالغاية من الصبر، والغاية من الصلاة هو تحقيق كامل العبودية لله عز وجل، هما وسيلة وليس غاية.
الصبر
كقوة لا ضعف
والصبر في
حقيقته يحتاج لقوة إيمانية فولاذية، وإرادة كبيرة لضبط ردود الفعل تجاه محنة ما،
أو تجاه عبادة يريد أدائها، أو حتى تجاه معصية يقبل عليها، فما أسهل الاستسلام
للغضب وتحقيق مراد النفس دون وعي! وما أسهل الوقوع في الذنب لمن ترك نفسه لنفسه
وشيطانه وغرائزه! لكن القدرة على كبح زمام النفس عند كل شدة مع العمل الدؤوب
والجاد والصحيح للخلاص منها، هو القوة الواعية.
قال تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا
بِاللَّهِ) (النحل: 127)، وقال تعالى: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) (الطور: 48)، وفي
الحث عليه لحصول الفلاح يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران: 200)، وعن أجر
الصابرين يقول تعالى: (أُولَئِكَ
يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) (القصص: 54)، وقوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10)، وقوله سبحانه تبشيراً للصابرين:
(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ
إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ
رَاجِعونَ {156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة)، وقد أثنى الله عز وجل على عباده من أهل الصبر، فقال
تعالى عن أيوب عليه السلام: (إِنَّا
وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص: 44).
وعن أبي سعيد
الخدري أنه قال: «إن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفد ما عنده قال: ما يكن عندي من خير فلن
أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله،
وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر» (رواه البخاري، ومسلم). 
وعن أنس قال: مر
النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: «اتقي الله واصبري»، قالت:
إليك عني؛ فإنك لم تصب بمصيبتي! ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه
وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك،
فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» (رواه البخاري، ومسلم). 
يقول ابن القيم:
إن مفاجأة المصيبة بغتة لها روعة تزعزع القلب، وتزعجه بصدمها، فإن صبر الصدمة
الأولى انكسر حدها، وضعفت قوتها، فهان عليه استدامة الصبر، وأيضا فإن المصيبة ترد
على القلب وهو غير موطن لها فتزعجه، وهي الصدمة الأولى، وأما إذا وردت عليه بعد
ذلك توطن لها، وعلم أنه لا بد له منها، فيصير صبره شبيه الاضطرار، وهذه المرأة لما
علمت أن جزعها لا يجدي عليها شيئا جاءت تعتذر إلى النبي، كأنها تقول له: قد صبرت،
فأخبرها أن الصبر إنما هو عند الصدمة الأولى(1).
الصبر
عند الجهاد والمواجهة
الصبر وقت المحن
لا يعني الركون في انتظار الفرج دون تقديم الوسع للخلاص من المحنة والخروج منها
والأخذ بأسباب النهوض واستجلاب النصر، وقد قرن الله عز وجل الصبر مع نبذ الوهن
وعدم الاستكانة، فقال تعالى: (وَكَأَيِّنْ
مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا
أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ
الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 146).
وفي حديثِ مطرَّفٍ عن أبي ذرٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة»، وذكر من الثلاثة الذين يحبُّهم الله تعالى: «رجلاً غزا في سبيل الله صابرًا محتسبًا مجاهدًا فلقِي العدوَّ فقاتل حتى قُتِل»، قال أبو ذرٍّ: وأنتم تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل ثم قرأ هذه الآية: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ) (أخرجه أحمد).
كيف
يكون الصبر عبادة وليس عادة وضعفاً؟
اشترط العلماء
مجموعة من الأسباب التي تجعل الصبر محموداً متقبلاً ومأجوراً من الله تعالى، منها:
1- تجديد النية
في كل ساعات المحنة، فالنية هي الفارق بين عمل وعمل، وقد يكون العمل ذاته مدعاة
لكسب الذنوب، أو يكون مدعاة لرفع الدرجات عند رب العالمين، فيصبر المسلم ابتغاء
مرضاة الله، وليس خوفاً من الظالم، وليس رضوخاً لأمر واقع، وليس سمعة أو رياء،
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»
(رواه البخاري، ومسلم).
2- الرضا
بالقضاء وعدم السخط من المحنة، فالشاكي للناس في كل وقت ليس صابراً، والمتبرم في
كل وقت ليس صابراً، والقلب الساخط ليس صابراً، فتحصيل الثواب لا يكون إلا بقلب راض
غير ساخط، ولا يعني ذلك كتمان الألم مع الاعتراض، فالمرء قد يشكو لرفع الظلم عنه
وذلك مطلوب، يقول تعالى: (فَاصْبِرْ
صَبْرًا جَمِيلًا) (المعارج: 5)، يقول ابن تيمية: الصبر الجميل هو الذي لا
شكوى فيه إلا إلى الله.
3- الاستعانة
بالله على الصبر، فيعتمد المسلم في طلب القوة على الصبر والثبات عليه بالله رب
العالمين، فالصبر بدون عون من الله يضعف وينتهي خاصة إذا طال البلاء، فيقول تعالى:
(وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ
إِلَّا بِاللَّهِ) (النحل: 127).
4- تطبيق أوامر
الله تعالى وقت المحن والابتلاءات، فيجب أن يصبر العبد وهو قائم بحقوق الله، فلا
يدفعه البلاء إلى ترك الصلاة أو إتيان المعاصي، بل يزيده قرباً من الطاعة، فيقول
تعالى: (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ
وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: 90).
5- عدم استعجال
الفرج، فيسلم المرء أمره لله تعالى ويؤدي فقط ما عليه مع ترك النتائج كلها على
الله عز وجل دون يأس أو تذمر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يستجاب لأحدكم ما
لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يُستجب لي» (رواه البخاري، ومسلم).
____________________
(1) عدة
الصابرين، ص 121.
 
                                             
                     
                 
                                     
                                     
                                     
                                     
                                     
                                     
                                     
                                     
                                     
                                     
                                     
                                     
                                 
                     
                    