مهنة المتاعب في زمن الإبادة.. استشهاد الصحفي حسن إصليح نموذجاً

في زمن تتعالى فيه أصوات المدافع وتخفت فيه أصوات الضمائر، تبرز مهنة
الصحافة لا كوظيفة فحسب، بل كأحد أشرف أشكال الجهاد في سبيل الله، حينما تتحوّل
الكلمة إلى سلاح، وتصبح الصورة أبلغ من ألف طلقة، ويُسفك الدم لا لذنب سوى فضح
الباطل وكشف جرائمه.
لقد رحل الصحفي الفلسطيني حسن تصليح شهيدًا، وهو يمارس مهنته المقدسة، ينقل الحقيقة للعالم في وقت صار فيه الكذب سيدًا، والصمت خيانة، والحياد شكلًا من أشكال التواطؤ، لم يكن يحمل بندقية، لكن الكاميرا التي كانت في يده أقضّت مضاجع المحتل، لأنها كانت تكشف للناس ما يحاول العدو إخفاءه، وتنقل للعالم مشاهد المذابح اليومية التي ترتكب في حق المدنيين الأبرياء في غزة.
الصحافة.. مهنة المتاعب أم درب الشهداء؟
ما عادت الصحافة في فلسطين مجرد مهنة تُمارس ضمن ضوابط مهنية تقليدية، بل
صارت خط مواجهة، وساحة من ساحات الصراع، فبينما يختبئ الكثيرون خلف مكاتبهم، كان
حسن إصليح وزملاؤه يركضون تحت القصف، يطاردون لحظات الحقيقة ليُدوّنوها في
الوجدان، لا على الورق فقط.
لقد كان يعلم أنه هدف، وأن الاحتلال لا يفرّق بين صحفي ومقاتل، فالكل عنده
عدو إن قال كلمة حق أو كشف جريمة، ومع ذلك، لم يتراجع، بل اختار أن يكون صوتًا لمن
لا صوت لهم، وعدسةً تنقل دموع الأمهات، وأنين الجرحى، وتكبيرات الشهداء، وعزيمة
المقاومين.
الكلمة أمانة.. ودم الصحفي شاهد
في شريعتنا الغرّاء، الكلمة مسؤولية، ومنبر أمانة، قال الله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق: 18)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم
من سلم المسلمون من لسانه ويده» (رواه البخاري).
فكيف بمن سخّر لسانه وقلمه وعدسته في نصرة المستضعفين وكشف المجرمين؟ أليس
ذلك من أعظم أبواب الجهاد؟!
بل إن العلماء عدّوا من مات في سبيل قول كلمة الحق في وجه سلطان جائر
شهيدًا، فكيف بمن يقولها في وجه طاغية محتلّ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»
(رواه أحمد، والترمذي).
فإذا كانت الكلمة تُقال تحت القصف، وتُرافقها صور الأشلاء، ويُدفع ثمنها من
الأرواح أفليس صاحبها شهيدًا بإذن الله؟
شاهد كيف كان صحفيو غزة.. الحقيقة التي أغضبت "إسرائيل"#غزة#ولعت#الإضراب_الشامل #يجب_فتح_المعبر#غزة_تحت_القصف pic.twitter.com/37koFqN5CW
— مجلة المجتمع (@mugtama) December 10, 2023
سيرة شهيد الكلمة
لم يكن إصليح صحفيًا عابرًا، بل كان صاحب رسالة، عاش لأجلها واستُشهد في
سبيلها، لم يجبره أحد على تغطية المجازر، لكنه اختارها عن قناعة، مؤمنًا بأن
للإعلام دورًا في مقاومة المحتل، لا يقل عن دور السلاح.
لقد كان من القلائل الذين استمروا في التغطية رغم الخطر المحدق بكل من يحمل
كاميرا أو ميكروفوناً، في ظل التعتيم الإعلامي العالمي، والانحياز الغربي الفاضح
للاحتلال، كانت تقاريره تقف كالصخرة في وجه آلة التزوير الإعلامية، تُعلن من وسط
الدمار: «هنا غزة.. هنا تُقتل الحقيقة، ويُذبح الصمت، وتُباع دماء الأبرياء في
بورصات السياسة».
غزة.. حيث تُقتل الكلمة وتُحارب العدسة
من المؤلم أن العالم المتحضّر الذي يتغنّى بحرية التعبير، يشاهد عشرات
الصحفيين يُقتلون في غزة ولا يحرك ساكنًا.
أين المواثيق الدولية؟ وأين قوانين حماية الصحفيين؟ بل أين الضمير العالمي
الذي يستنفر لأقل حادث في دول الغرب، ويصمت عند المجازر المفتوحة في غزة؟
لكننا لسنا متفاجئين، فالله تعالى قال: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ
عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (البقرة: 217).
ويكفي أن نعلم أن أكثر من 140 صحفيًا قُتلوا منذ بدء العدوان الأخير على
غزة، لندرك أن الكلمة الحق تُرعب العدو أكثر من الرصاص، وأن العدسة الصادقة أشد
فتكًا من المدافع.
واجبنا تجاه دم إصليح وأمثاله
إن استشهاد إصليح ليس مجرد خبر يُذاع ثم يُنسى، بل هو نداء لنا جميعًا أن
لا نكون صامتين:
- نُذكّر العالم بدمه كل يوم.
- ندعم الصحافة الحرة والمقاومة بكل وسيلة ممكنة.
- نفضح صمت المؤسسات، ونُعيد تعريف حرية التعبير كما أرادها الإسلام؛ كلمة
حق عند طاغية.
- نُعدّ أبناءنا ليكونوا حملة أمانة الكلمة، لا خدماً لمصالح الغرب.
ولنتذكّر دائمًا: الكلمة الصادقة عبادة، والسكوت عن الحق خيانة، والدفاع عن
أهل غزة واجب شرعي، لا مجرد تعاطف عاطفي.
في زمن الإبادة، تكون مهنة الصحافة طريقًا نحو الشهادة.
وفي زمن التواطؤ الدولي، يكون الصحفي المجاهد أعظم من ألف زعيم صامت.
وفي زمن النكبة المستمرة، يُصبح اسم حسن إصليح شاهدًا على جريمة العصر،
وعلى أمة لم تُحسن النصرة.