«النسيء».. تلاعب الجاهلية الذي اعتبره الإسلام كفراً

يعتبر «النسيء» من أخطر البدع التي كانت منتشرة في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، حيث كان يمثل تلاعبًا مباشرًا بالتقويم والأشهر الحرم التي عظّمها الله.

سنستعرض بشكل مفصل معنى النسيء، ومن ابتدعه، ولماذا اعتبره القرآن الكريم «زيادة في الكفر»، مع تفسير الآية الكريمة وسبب نزولها.

ما «النسيء»؟

لغويًا: كلمة «النسيء» مشتقة من الفعل "«نسأ»؛ بمعنى أخّر وأجّل، يقال: نسأ الله في أجله، أي أخّر موته ومدّ في عمره.

اصطلاحًا: كان النسيء ممارسة يقوم بها عرب الجاهلية، وتحديدًا قبيلة كنانة، لتأخير أو تبديل حرمة شهر من الأشهر الحرم (ذو القعدة، ذو الحجة، المحرم، رجب) إلى شهر آخر، كانوا يفعلون ذلك لمصالحهم الدنيوية، وعلى رأسها الرغبة في مواصلة القتال والغزو، وهو ما كان محرمًا في الأشهر الحرم.

على سبيل المثال، إذا حلّ شهر المحرم وهم في حالة حرب أو يرغبون في غزو قبيلة أخرى، كانوا يعلنون تأخير حرمة شهر المحرم إلى شهر صفر، فيجعلون المحرم شهرًا حلالًا يقاتلون فيه، وصفر شهرًا حرامًا يتوقفون فيه عن القتال.

من ابتدع «النسيء»؟ وكيف كان يتم؟

أول من قام بـ«النسيء» رجل من قبيلة كنانة يُدعى جنادة بن عوف الكناني، وكان يُلقّب بـ«القَلَمَّس»، وكان هو وذريته من بعده يتولون هذه المهمة.

كان القلمّس يقف في موسم الحج عند جمرة العقبة في منى، ويجتمع إليه العرب، فيخطب فيهم معلنًا عن قراره للعام القادم، فكان يقول: «أنا الذي لا يُعاب ولا يُجاب»؛ أي لا أحد يعيب قراري أو يردّه، ثم يعلن عن الشهر الذي تم تأجيل حرمته، كأن يقول: «إنا أحللنا المحرم وأخرنا حرمته إلى صفر»، فيتبع العرب قوله.

كان هذا الفعل بمثابة سلطة دينية وتشريعية اخترعوها لأنفسهم؛ ما جعلهم يتحكمون في أقدس الأزمنة لدى العرب.

أما في تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) (التوبة: 37)؛ فقد جاء الإسلام ليضع حدًا لهذه الفوضى التشريعية، فنزلت الآية الكريمة في سورة «التوبة» لتوضح الحكم القاطع في هذه المسألة؛ (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (التوبة: 37).

سبب نزول الآية

ونزلت هذه الآية الكريمة لإنهاء بدعة «النسيء» التي كانت منتشرة بين العرب، التي كانت سببًا في ضياع معالم الشهور وتوقيتات العبادات، وعلى رأسها الحج الذي كان يقع في غير شهر ذي الحجة في بعض السنوات بسبب هذا التلاعب.

لماذا اعتبر «النسيء» زيادة في الكفر؟

اعتبر القرآن الكريم «النسيء» زيادة في الكفر لعدة أسباب جوهرية، منها:

1- الافتئات على حق الله في التشريع: الله وحده من يملك حق التحليل والتحريم، وعندما كان أهل الجاهلية يحلّون شهرًا حرّمه الله، كانوا ينسبون لأنفسهم صفة من صفات الألوهية، وهو من صميم الكفر.

2- الاستخفاف بحرمات الله: كان هذا الفعل يعكس عدم تعظيمهم لشعائر الله، حيث كانوا يتعاملون معها وفقًا لأهوائهم ومصالحهم القتالية والاقتصادية.

3- إضلال الناس: تسبب «النسيء» في إضلال العرب عن التوقيت الصحيح للأشهر؛ ما أدى إلى اختلاط الأزمنة وضياع حرمتها الحقيقية.

4- التحايل على شرع الله: كانوا يزعمون أنهم يحافظون على عدد الأشهر الحرم (4 أشهر)، ولكنهم يتحاشون تطبيق الحرمة في وقتها المحدد، وهو تحايل واضح، فقوله تعالى: (لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ) يكشف نيتهم في التحايل، حيث يوافقون على العدد (4 أشهر) ولكنهم يخالفون في التطبيق الفعلي.

حجة الوداع.. نهاية بدعة «النسيء»

كان الإعلان الحاسم عن نهاية هذه البدعة في حجة الوداع، حيث خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبته الشهيرة وأعلن فيها عن عودة الزمن إلى هيئته الصحيحة التي خلقه الله عليها، فقال: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» (متفق عليه).

وبهذا الإعلان النبوي، تم تثبيت التقويم القمري الإسلامي بشكله النهائي، وأُغلِق باب التلاعب بالأشهر الحرم إلى الأبد، ومنذ ذلك اليوم، لا وجود لما يسمى بـ«أيام النسيء».

إذاً، كان «النسيء» بدعة جاهلية خطيرة، لم تكن مجرد تغيير في التقويم، بل كانت تعديًا على سلطان الله في التشريع، واستخفافًا بحرماته، وقد جاء القرآن الكريم بحكم قاطع وحاسم، واصفًا إياه بأنه «زيادة في الكفر»، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ليضع الخاتمة العملية لهذه الممارسة، ويعيد للزمان نظامه الإلهي الصحيح.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة