البيت الجاذب.. 6 مفاتيح لأسرة سعيدة ومتماسكة

 

في زمن تتسارع فيه الخُطى، وتتنافر فيه الأرواح داخل البيت، وتتفكك فيه الأُسر، يَبقى الحُلم الأكبر لكل أب وأُم أن يظل بيتهم مَرفأً دافئاً يعُود إليه الأبناء مهما ابتعدوا ومهما شغلتهم المُلهيات.

وليست المسألة في فخامة الأثاث، ولا في رَحَابة المساحة، ولا في وجود الرفاهيات، بل الأمر الأهم هو الأرواح التي تسكن تلك الجُدران فتجعل منها قلوباً نابضة بالحب، تلك الروح التي تصنع البيت الجاذب للأبناء، البيت الذي لا يطرد أبناءه بالصراخ والنقد والصخب والغِلظة، بيت لا يُقيدهم بالخوف، بل يحتضنهم بالحب.

فليس جمال البيوت فيما نشيده من جدران، بل فيما نبنيه في قلوب أولادنا بالحب والأمان، ومن هنا وضعت المفاتيح الستة للبيت الجاذب:

أولاً: البيت الجاذب ليس مثالياً:

البيت الجاذب ليس خالياً من الخطأ والاختلاف، بل هو بيت يعرف حقيقة الطبيعة البشرية، وخاصة الأبناء الذين يكثر عندهم الخطأ لعدم الخبرة والمعرفة، فليس هناك طفل مثالي لا يخطئ، فجميعهم يرتكبون الأخطاء، بل إن جميع البشر يرتكبون الأخطاء.

تقول د. مايسة فاضل، أستاذة علم النفس التربوي: «يجب على الأهل أن يُدركوا أن الفشل والإحباط جزء من النمو، وأن الأخطاء تَمنح الفرصة لتعليم الأبناء الصواب»، وهذا ما أكده حديث عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ حيث قال: كنت غلامًا في حِجْرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيشُ في الصحفة (أي تمتدُّ في كل ناحيتها)، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام، سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك» قال: فما زالت تلك طِعْمتي بعدُ.

وهنا لفتة تربوية مهمة؛ إذ يقول عمر: «فما زالت تلك طِعْمتي بعدُ»، وكأن أخطاء الصغار هي بوابة الفهم والتعلم بالنسبة لهم، ووسيلة المربي لتقويم أخطائهم وتصحيح سلوكياتهم.

فعندما تتوقع أن الأطفال ينبغي ألا يُخطئوا فإنك بذلك تبعث لهم برسالة قاسية وغير صحيحة عن طبيعة الحياة؛ إذ إنك تضع مستوى ومقياساً لا يمكن لأحد الوصول إليه، وعندما يتوقع الآباء المثالية، فإن الأطفال لن يشعروا إلا بالعجز وعدم الكفاءة للوفاء بمقاييس والديهم.

ثانيًا: البيت الجاذب يشعر فيه الأبناء بالأمان:

الأمان شعور مفقود عند كثير من أبناء هذا الزمان، الأمان هو ذاك الشعور الذي يجعل الابن ينام مُطمئناً هادئاً وهو يعلم أن أحداً لن يجرح مشاعره بكلمة، أو سيُوقظه بعقاب غير مُبرر، فالأمان لا يُغرس في البيت بالأقفال الحديدية، لكن بالاحتواء والسلوكيات الإيجابية، وهذا ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم مع الغِلمان، فهذا أنس بن مالك يقول: «خَدَمْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عشرَ سنين بالمدينةِ، وأنا غلامٌ، ما قال لي فيها: أفٍّ قطُّ، ولا لشيء فعلته لمَ فعلته؟ ولا لشيء تركته لمَ تركته؟».

ثالثًا: البيت الجاذب هو الذي يشعر فيه الأبناء بالقَبُـول:

يقول د. مصطفى أبو السعد: «القَبُول حاجة نفسية لدى الطفل، وإشباعها يُنمي الصفات الإيجابية لديه ويُبعده عن الكثير من السلوكيات السلبية التي يُمكن أن تتولد من افتقار الطفل للشعور بالقبول»؛ لذا كان من أهم إستراتيجيات البيت الجاذب أن يشعر الأبناء فيه بحُب والدِيهم وبتقبلهم لهم على طبيعتهم، بدون تَصنع ولا تلوّن، ولا كما يتمنى الآباء أن يروا أبناءهم، بل حتى لو صدر سلوك سلبي من الأبناء فهم مقبولون أيضاً، ولكن سلوكهم السلبي غير مقبول.

ومن النقاط المهمة التي لا بد من التركيز عليها أن نفصل بين السلوك السلبي والابن، لأن كثيراً من الآباء والأمهات يكون مقدار حبهم وتقبلهم لأبنائهم على قدر تفوقهم وإيجابية سلوكياتهم، وهذا من الخطأ الفادح الذي يدمر نفسية الأبناء.

ومن هنا نقول: إن المُربي الواعي هو من يُحب أبناءه ويتقبلهم لأنهم أبناؤه، لا لأي اعتبار آخر، وأن المُربي الناجح هو الذي يُركز على حل المشكلة لا على ذات المشكلة، كما يُركز على تعديل السلوك السلبي لا على السلوك ذاته.

رابعًا: البيت الجاذب يشعر فيه الأبناء بالتقدير:

يقول أحد الحكماء: «قَدِّر صغيرك إن أراد مُحاولاً.. فالبُرعم النامي يُرَبَّى بالعطفِ»؛ فالبيت الجاذب يشعر فيه كل إنسان بإنسانيته، وأن له قدراً ووزناً وقيمة، فلا يُهان، بل يُصان، ولا يُنتقص من قدره، بل يُوضع في مكانته وقدره الذي يستحقه، ولذلك تجد النبي صلى الله عليه وسلم يُعامل الغلمان بالتقدير والاحترام، فتجده مثلاً يُكني الصبي ويُناديه بكُنيته كما في حديث أنس قال: «إن كان النبيُّ لَيُخالطُنا، حتى يقولَ لأخٍ لي صغيرٍ: يا أبا عُمَيرُ، ما فعل النُّغَيرُ؟»، فيُناديه صلى الله عليه وسلم بأجمل الأسماء والكُنى؛ تقديراً وتوقيراً لهذا الغلام.

فالأبناء لديهم رغبة عالية في أن يعترف بهم الكبار، ويعاملوهم كأفراد لهم أهميتهم، فنمدحهم حين يقومون بعمل، ونُنصت إليهم حين يتكلمون، ونكافئهم حين ينجزون.

خامساً: البيت الجاذب يشعر فيه الأبناء بالدفء العاطفي:

فلا تُترك الأرواح فيه لترتجف في وحل الانعزالية والقسوة والجفاء، بل تفتح لها نوافذ الحنان وأبواب الدفء القُرب والانسجام، فالكلمة الطيبة تُنعش قلباً ذابلاً، والابتسامة تُعيد للطفل أمانه المفقود، واللمسة الحانية تُحيي في فؤاده نبضاً، وهذا ما تجده حقيقة لا خيالاً في تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الصبيان والأشبال، ففي حديث جابر بن سَمُرة قال: «صَلَّيْتُ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ صَلَاةَ الأُولَى، ثُمَّ خَرَجَ إلى أَهْلِهِ وَخَرَجْتُ معهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ وِلْدَانٌ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ خَدَّيْ أَحَدِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا..» (صحيح مسلم).

وقد أظهرت دراسات عدة أن الإهمال العاطفي قد يكون له تأثير سلبي أكبر على الصحة العقلية، مقارنة بجميع أنواع سوء المعاملة في مرحلة الطفولة، ويرتبط بالنتائج الجسدية والنفسية والتعليمية المُضرّة، وفق ما أوضحته د. جنا زعبلاوي، مشيرة إلى أن ذلك يؤدي إلى زيادة اضطراب السلوك الداخلي والخارجي للطفل، فضلاً عن تأخر نموه المعرفي والعاطفي.  


سادسًا: البيت الجاذب يقوم على الحوار:

الحوار في البيت ليس حدثاً عابراً، بل هو أسلوب حياة، والأبناء في البيت الجاذب لا يخافون من مصارحة آبائهم بأخطائهم ولا يخفون عنهم مشكلاتهم؛ لأنهم اعتادوا على أن تُسمع كلماتهم قبل أن تُحاكم، وأن تُناقش أفكارهم دون سخرية أو استهزاء.

والحوار البنَّاء يعني الإنصات الذي يُشعر الابن أنه يُرى ويُفهم، وهذا ما مارسه النبي صلى الله عليه وسلم مع الشاب الذي جاءه بكل ثقة وشعور بالأمان ليطلب منه الإذن بالزنى! فكان الجواب راقيًا، بل كان الحوار مؤثراً: «أتراضه لأمك؟ أترضاه لأختك؟..»، والشاب يُجيب: لا، نفسي فداك يا رسول الله.

ينبغي للآباء والأمهات أن يكون هدفهم وسعيهم في جعل بيوتهم جاذبة لأبنائهم، لا أن يكونوا مُنفّرين مفرّقين، وأن يكون للحوار البناء وللحب والاحتواء في هذا البيت مكانٌ رحبٌ.

ولك أن تعلم أيها المُرَبِي الكريم أن الأبناء لا يُخَلِّدون في ذاكرتهم تفاصيل الغرف، ولا ترتيب الأثاث، ولا لذة الطعام، بل يُخلدون المعاملة الطيبة والمشاعر الجميلة التي عاشوها في تلك الجُدران، لتظل ذكرى هذه المشاعر شُعلة تُضيء لهم دُروب الحياة.

فحين تُضاء زوايا بيوتنا بهذه الشموع الستة يكون البيت أكثر من سقف وأثاث وجدران ليصبح موطناً تنبت فيه الأرواح بالحنان وتستريح فيه القلوب بالطمأنينة والأمان.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة